ربما كانت المضافة هي الشكل الحضري لديوان الشيخ بالمفهوم القَبَلي، فإذا كانت العرب تجتمع ببيت الشَعر الكبير لشيخها و هم أبناء قبيلة واحدة فإن المضافة بالقرية كمكان تلتقي فيه العشيرة بأطيافها المختلفة و ربما المتناقضة أحياناً بعد أن كان يتعذر لقاؤهم بدار المختار لصغرها هي المقابل لبيت الشعر. و أذكر أن المرة الأولى التي شاهدت فيها المضافة كانت ببلدنا في بداية الستينيات عندما عدنا للإقامة بقريتي الوادعة، حيث كنا قبلها مرافقين للوالد عندما كان شرطياً في القدس. و كانت عبارة عن غرفة متواضعة و أمامها ساحة كبيرة نسبيا للاحتفالات بالمناسبات المتعددة. و كما يحدثني الوالد أحيانا أنه نادرا ما كانت المضافة تخلو من ضيف عابر سبيل ينام فيها و ينام عنده من شباب العشيرة من يقوم على خدمته. ثم ما لبثت هذه المضافات أن اختفت نتيجة هجرها و عدم الاهتمام فيها و لاختفاء السبب الحقيقي لها و انشغال الناس بمصالحهم.
و في نهايات الثمانينات تقريبا عادت فكرة المضافة للظهور ثانية بقيادة العشائر الكبيرة و التي كانت القدوة لباقي العشائر لإحيائها من جديد. و من الغريب أن الغالبية الكبيرة من أبناء العشائر تكاتفت لبنائها و لم يتأخر أحد عن المساهمة في البناء لإخراجها لحيز الوجود. و عاد هذا الشكل التراثي للظهور كمكان عام للاجتماعات بالمناسبات ثم تطورت لتكون لها أكثر من هدف و منها السياسي طبعا عندما يتعلق الأمر بالانتخابات النيابية، حيث أن هذه المضافات هي من أفرزت غالبية النواب بمجالس النواب المختلفة حتى من ترشح منهم عن القوائم الوطنية، فهم أيضا إفرازات عشائرية. و بعد نتائج المجلس الأخير أصبحت العشائر تتباهى بأعداد من وصل من العشيرة للمجلس. شخصيا لا أرى أن تغيراً سيطرأ على نوعية الداخلين لمجلس النواب مهما كان قانون الانتخاب المنوي إخراجه بالمستقبل، فالعشائر هي الفيصل كانت و ستبقى الرقم الصعب كما قلتُ بمقال سابق.
و بما أن هذا هو الوضع فإنني أرى أن يتم تطوير هذه المضافات (حاضنة العشائرية) ليُضاف إليها بُعدا سياسيا إضافة للأهمية الاجتماعية، فلا ضير من أن تستضيف هذه العشائر شخصيات حزبية سياسية لتخرج هذه العشائر مرشحين و نواباً مسيسين. فالسياسة هي التي ستنقل أداء المجلس النيابي الى ما يطمح اليه المواطنون. و لا بأس بأن تكون مكانا يتحدث فيه أصحاب الخبرة من العشيرة كذلك بشأن البلد (الأردن) ككل و ليس شأن العشيرة فقط.
ويجب كذلك أن يكون للثقافة دور في هذه المضافات فنحضر فيها الندوات و تُناقش فيها القصائد و الكتب و ربما أكون أكثر طموحا فأتحدث عن نقاشات لبعض ما يقرأ الشباب من كتب او مقالات أو موضوعات. و لمن يستغرب ذلك أذكره بأن دواوين الشيوخ كانوا يسمعون فيها الشعر و القصص القديمة و الربابة و لا ضير في ذلك.
و من أهم الجوانب الثقافية المهمة كذلك مناقشة مستويات طلبة العشيرة بالمدارس ضمن نطاق المضافة خاصة (و حسب سياسة وزارة التربية ) فأن معظم المعلمين هم من أبناء القرية و طبعا من مختلف عشائر البلدة؛ لهذا و عند ظهور النتائج يتم تكريم المتفوقين و مناقشة أسباب ضعف الآخرين.
و بما أن هذه الاقتراحات ربما تحتاج الى نوع من التكامل مع العشائر الأخرى فلا أرى بأسا من إخراج صيغة أخرى للمضافات تجمع كل عشائر البلدة بما يسمى ديوان أبناء القرية. و هذا التصور برأيي يُخرجنا من الفردية العشائرية إلى العمومية و الإيثار و بدل الأنانية. و هنا يحضرني تجربة رائدة و هي تجربة ديوان أبناء الكرك بدابوق التي تمثلت فيها كل ما طرحته من رؤى جديدة للمضافات؛ و بديوان أبناء الكرك تحول الديوان من مجرد مكان للاجتماعات العشائرية الى منبر ثقافي كبير (دارة المشرق للفكر و الثقافة). و بما أن الفضل يجب أن يُنسب لأهله فإن هذا يعود للأستاذة الفاضلة المربية زهرية الصعوب القائمة على الأنشطة الثقافية في الديوان، فبارك الله بجهودها و أطال في عمرها.
هل ستصبح المضافة نواة لتجمّع اجتماعي ثقافي سياسي و رياضي كذلك؟ و لم لا ؟ فقد تكون هذه المضافات يوماً ما الرافد الذي سيرفد الحكومات و مجالس الأمة و الأندية الثقافية و الرياضية بخيرة الخيرة من أبنائها؛ قطعاً ليس منهم من يتمثل قول دريد ابن الصمة
و هل أنا الا من غزية أن غوت //غويت و إن ترشد غزية أرشد.
و لكن يكون كما قال طرفة بن العبد
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني // عنيت فلم أكسل و لو أتبلد
و كانت نخوته للبلد كلها و ليس للعشيرة فقط
alkhatatbeh@hotmail.com