بالامس كنا نتابع بقلق و حزن بالغين الوضع الصحي للعلامة هاني فحص ونسأل الله عز وجل أن يختار له ماهو خير له ، واليوم بعد وفاته ندعو من الباري جل و علا أن يتغمده برحمته الواسعة، فإننا لانستطيع أبدا أن ننسى الدور الکبير و المشهود لهذا العالم الجليل في التأسيس للوسطية و الاعتدال في ديننا الحنيف بنهج عصري مداف فيه أصالة متميزة، وقد أفلح کثيرا في المضمار الذي إختطه ليس لنفسه فقط وانما للأجيال الاخرى من بعده، وفي هذا الامر أکثر من معنى و عبرة.
هذا العالم الجليل الذي أثبت نظريا و عمليا صدق إنتمائه لأمته الاسلامية و للحضارة العربية الاسلامية و بين خلال حياته العطرة الکثير من الحقائق و المفاهيم و شرح الکثير من المسائل التي کانت تلتبس على الدارسين و الباحثين في التأريخ و الفکر الاسلامي، ولذلك فإن خسارته ليست کبيرة فقط وانما هي لايمکن أن تعوض بسهولة، إذ قدم الرجل تراثا فکريا ثرا أغنت المکتبة العربية الاسلامية و أضافت للعقل العربي الاسلامي الکثير من الحداثة و التطوير النوعي بما يجعله مماشيا و مجاريا بروح الاصالة لکل القضايا و الامور و المستجدات المطروحة.

ماقدمه العلامة الجليل فحص، کثير و متنوع و شمل مختلف المجالات، لکنه في نفس الوقت کان ذو فهم و نظرة ثاقبة للواقع الذاتي و الموضوعي و القضايا الملحة الطروحة فيه و التي تستدعي رأيا و موقفا حازما و حاسما من جانبه، وقد أثبت هذه الحقيقة و بصورة أکثر من واضحة بخصوص الموقف من حزب الله بما صار يمثله من تيار بات الکثيرون ينجرفون و ينساقون مع أمواجه معتقدين بأنه يمثل النهج الاصح و الائمن، لکن العلامة فحص وقبل أن يغادر الدنيا الفانية وجه رسالة هامة ذات مغزى عميق جدا لحزب الله، يمکن إعتبارها منهاجا فکريا يضع النقاط على الاحرف في الکثير من الامور المتعلقة بهذا الحزب و کيفية تناوله و تعاطيه مع مختلف المفاهيم و القضايا و الامور.

العلامة هاني فحص في رسالته الجزلة و الفصيحة و المعبرة أيما تعبير الى حزب الله، لفت الانظار مجددا الى قوة فعل الکلمة و الموقف الحق و الصحيح أمام جبروت القدرة و السلطة و النفوذ فهو لايخاطب هذا الجمع کجمع وانما کفرد، وفي ذلك أکثر من معنى و عبرة، لأنه يبين ان التبعية العمياء صارت نهجا فيه فليس هناك من يرفض او يعارض او يطرح رأيا آخرا وانما الجميع منساقون کفرد واحد بإتجاه محدد و مرسوم ليس هناك من دور للعقل الجمعي فيه بل أن العقل الجمعي قد ذاب في عقل فرد! العلامة فحص عندما يقول في جانب من رسالته و هو يخاطب الحزب من زاوية حادة جدا و بالغة الاهمية: "تريدون أن تذهبوا الى الجنة وحدكم! فهل تصلون؟ أشك.."، فإن في شکه هذا الکثير من المعاني للذين يمضون من دون عناء او روية خلف هذا الحزب و يعتقدون انهم على السراط المستقيم و غيرهم على ضلالة بينة، والحقيقة أن الامتين العربية و الاسلامية کانت أحوج ماتکون لهذه الکلمات القليلة في عددها لکنها واسعة و شاملة و کبيرة جدا في معناها وطاقتها الاستيعابية.

اساليب و طرق حزب الله في التعامل و التعاطي مع الآخر، کما کتب العلامة الجليل، فيها أکثر من نقد لاذع و حاد للحزب فهو يخاطب الحزب بصورة واضحة ومن دون لف و دوران بخصوص منطق الحزب في التعامل مع الرأي الآخر:" وليس بالضروري قتلنا المادي، إذا ما تيسر القتل المعنوي، أو تشويه المعنى، وهو ميسور لكم بفضل فائض القوة في العلم والفقه والمال والسلاح والأنصار والزبائن والمنابر ومكبرات الصوت والقبضات الحديدية والعيون الخرزية التي تجمد العلم في شرايين العالم وتجمد الأخلاق في وجوه الأوادم."، هذا الکلام المعبر بعمق يميط أيضا اللثام ضمنا عن سبب القوة و السطوة و الغلبة لهذا الحزب و هيمنته على الساحة.

أما مايتعلق بالاوضاع في سوريا و لبنان و العراق و فلسطين، فإننا نجد الضرورة تفرض نفسها بإيراد مقطع طويل نسبيا من الرسالة حيث ان العلامة يوضح فيها حقيقة موقف الحزب کما يراه بعينه المؤمنة الثاقبة التي تنظر في الله و لله الى الامور و القضايا و الواقع برمته فيقول:" حيا الله زنودكم وزنادكم.. ولكن العقل، هو الذي خلقه الله لكي يعرف به، وهو الذي يقبل ويدبر، أي يفعل ويكف عن الفعل، بأمر الله ونهيه، لأنه المؤهل لمعرفته، وبه يكون الثواب والعقاب، اي أننا قد نقوم بأعمال عظيمة، ولا نحسن استثمارها في الخير أو أننا نستثمرها في الشر، لأننا لم نستخدم عقلنا، وقد نقوم بأعمال بسيطة، ولكننا نداوم عليها ونعدل في مساراتها، فتصبح ثروة تتزايد كلما وسعنا نطاق المساهمة فيها والاستفادة منها.. فأرونا أدلة شافية، على ان عقلكم ما زال قادرا وحده (؟) على الرجحان والترجيح، وتقديم المصالح على المفاسد في سورية ولبنان والعراق وغيرها، وقبل فوات الأوان على الجميع.. عليكم خاصة أو أولا، خاصة بعدما برزت المفارقة الفاجعة بينكم وبين حركة حماس، عندما غادرت دمشق النظام الى غزة، وانصرفتم عن حيفا الى القصير!". صعبة و ثقيلة على الارواح و العقول و النفوس الوقوف أمام حضرة عالم جليل کالعلامة هاني فحص وإستحضار تراثه و مآثره و مواقفه النيرة، وصعب و أثقل أکثر عليها وهي ترى إحتمال أن يغادرنا الى الدار الازلية التي هي في النهاية مآلنا جميعا، لکننا نستدرك و نؤکد للعلامة الجليل و لکل من سار على دربه و آمن بأفکاره و طروحاته، اننا على العهد و سنمضي في مشواره الحق حتى النهاية بإذن الله تعالى و مشيئته.
سيد هاني.."إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك لمحزونون".
رحمك الله ونسأل الله أن يجعل مثواك الجنة ويحشرك مع اجدادك الطاهرين .والعزاء لأهلك وعائلتك و لنا جميعاً فنحن الأيتام من بعدك .

*العلامة السيد محمد علي الحسيني
الامين العام للمجلس الاسلامي العربي في لبنان.