facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بئرخداد : لغةُ الطين .. ودمعةُ الحجر


باسل الرفايعة
01-11-2015 01:24 PM

على الأرجح أنّ للنسيانِ عيناً تنتحبُ. ربَّما تنبسطُ على رمشهِ سهولٌ كثيفةٌ، تطلُّ على أتربةٍ وقرىً وأعشابٍ يابسة. وفي جواره يتمدَّدُ ضوءٌ مليءٌ بالدُخان. إنه هناك في البيوت التي تدقُّ النهارَ في أجرانِ قمحٍ عتيقة، يُسرعُ خلفَ دوابٍ وماشية، يرى طيوراً تغزلُ أعشاشها بمناقير كأنها أنوالٌ تتراقصُ في أعالي الأشجار. ويرى رجالاً في بِزّاتٍ عسكريةٍ، يُسرعونَ إلى الإجازة، ونساءً تهيأنَ بالمرايا، وذهبنَ في غناءٍ مقصود.
لا أعرفُ في أيِّ حجرٍ أدقُّ أولَ إزميل، أريدُ أنْ أصعدَ الليلَ دون لهاث، لئلا تستبدَّ الريحُ بكلِّ صورةٍ عاتية. ولئلا أهوي كحصاةٍ إلى قعر الوادي. لا تلتقطني شجيرةٌ أو شوكةٌ. كأنني حطاب، لا يهوي على الجذوعِ إلا بفأس الرأفة.
وُلدتُ وعشتُ بينَ الطينِ والحجارةِ والحَراذين* التي تنامُ في شقوقِ السناسلِ والحيطان. الحرذونُ كان يُصغي لشجار الأزواج ويعرفُ كيفَ ينتهي. كانَ يُصَلِّي على صخرةٍ قريبة، ويعودُ ليشهدَ التعاليلَ، تحتَ دوامرَ* من حديد هاربٍ من سكك الخطِّ الحجازيِّ، فلا يطأه القطارُ العثمانيُّ الذي يحملُ خيولاً، تنهبُ الطحينَ من عُدولِ الفئران*.
إنها البيوتُ التي مشتْ في الصدفةِ. وشربتْ من الصُنوعِ* في شباط. الحميرُ والبغالُ في المربط. النعاجُ والماعزُ في الرِبْقِ*، والحليبُ يلثغُ في الرواية. مَنْ أنا لأدلقَ لبناً رائباً، فتبكي العجائزُ على زُبْدَةٍ هاربةٍ من خضِّ السُّعون* على رأسِ الخشب.
كانت الأرضُ حُبلى بالحجارة والطين. التكوينُ ينادي على التبنِ من آخر البيادر، لتصعدَ البيوتُ إلى بئرخداد، وتدبُّ مع النملِ والحبوبِ الصغيرةِ في دربِ التبانة. هل انطفأت نجمةٌ هنا. هل باتت الشمسُ دُونَ عشاءٍ من عدسٍ وقثّاءٍ ومِلْحٍ خشنٍ، وبامياء مجفَّفةٍ بخبرةِ عجوز.
تعالوا إلى البيوت. بيتُ النحلةِ قرصٌ مسروقٌ من الأزهار. بيتُ النملةِ خطُّ مراهقةٍ تكتبُ رسالةً خجولةً لفتاها. بيتُ العنكبوتِ فسيفساءُ الأرامل والكهوف. بيتُ النعاسِ مكتظٌ بالخراف البيضاء الصغيرة. بيتُ جدّي لأمّي عليِّ بن الحسين كان بيتَ القهوة والهيْلِ والمهباش. ذلك اسمُ جدّي المشتقُّ من أفعاله، لا من التاريخ. وحينَ يلتبسُ عليٌّ بِعَليٍّ، فاقرأْ على النَّاسِ "نهْجَ البلاغةِ" وتذكَّرْ مجلسَ جدّي، وعصاهُ المسنونةَ بالريحِ والزعرور.
جدّي عليُّ بن حسين الشُقران الرفايعة، من أوائلِ الذين شقّوا طرقاً في وشوم القرية. الوشمُ بيتٌ وقنطرةٌ وعتباتٌ تبوسها الخطى، ويسهرُ عندها قمرٌ حصّادٌ متعب. جدّي من خيرة الرجال الذين رفعوا القواعدَ من البيوت القديمة في بئرخداد. كانت التلةُ قَبْلَ فأسهِ وقدّومه مخابئ للسحالي والحَرْمَلِ والغَيْصَلان*.
نسخَ الرجالُ خطَّهُ في الخِرْبةِ القديمة. نَحْنُ الأنباطُ أحفادُ الحارث الثالث، رواةُ سيرةِ الحَجَر في بئرخداد: الشُّقرانُ من شقرةِ جناح الدبّور، فإياكَ وسوءَ المآل. الجباراتُ من جبروتِ التلاع وخضرتها، ولهم تلعةٌ يكثرُ فيها الجلبّان*. ثمّ في البيوت إيّاها الذياباتُ الذين قهروا ذئابَ الليل. إنَّهم أخوالُ أمي. على أنني من عيالِ سالم من الشُّقران ، وجدّي لأبي هو سالم بن أحمد. تزوّج على خضرة بنت رفيع شقيقة الشيخ علي بن ذياب الذي كانَ يخشاه الأتراكُ في قلعة الشوبك. قالت فضيّةُ بعد الزواج، لتخفِّفَ الأمرَ على خضرة: "خاطري من الشريف إعْلاقة عيالْ، ما هِيْهْ إعْلاقة مالْ". ذلك فصْلٌ من توتِ العُليّق، لا مطلع فخرٍ من معلقة عمرو بن كلثوم.
البيوتُ، ليستْ جمْعَ بيت. تلكَ لغةٌ طينيةٌ. إنَّها جمعُ غيوبٍ، أحتاجُ اشتقاقاً أفضلَ من الفعل. لأرى الحيشانَ* والغرفَ التي تصطفُّ وتمسكُ بأيديها، وتمدُّ لسانها للزلازل. بيوتُ بئرخداد عمّرها أيضاً قاهرُ الجنِّ الإمام جبرُ المعمّرين بتلاوته ومسبحته. وبسطَ لها القعامرةُ وعيالُ سلامة والبرارشةُ والجماعينُ والمعمّرين* مصاطبَ أسمنتٍ، كأنَّها حلاوةٌ رماديةٌ من عملِ مالجٍ نبطيّ. تُسمّى "صَبَّةً" من ميوعةٍ، سرعانَ ما تطهوها شمسُ القرية، وتٰحمسها، كقهوةٍ في مِحْماسٍ صبور.
ما البيوتُ في أيَّامي. لا أضعُ للسؤالِ علامةً. السؤالُ هو الأولُ في صفِّه. أضعُ للبيت في بئرخداد باباً شَجَريَّاً من بلّوطٍ. وأدَعُ النساءَ يُعلقنَ حدائقَ الحرملِ* فَوْقَ المرايا. أَدَعُ أشجارَ التفّاح واللوزِ، وأدعُ قعْفورَ الأرض وشومرها وشحّومها، تحت رحمة مِحْفارٍ جائر*.
البيوتُ ملحمةٌ حجريّةٌ. الفؤوسُ والمَجارفُ والعتلاتُ تسحبُ الحجرَ من مخدعه، تنفضُ الأزاميلُ عنه غبارَ الفوضى في الشكل، وتعيدُ خلقه على ملاسةٍ ملائمة للاستقرار في "ساسِ" البيت، أو على حيطانه. الطينُ والشُّحوفُ* الصغيرةُ من السنّام والصوّان، تُمسكُ مفاصلَ الجدار. لا بدّ من ترابٍ صلبٍ مجبول بالحصى والتبن. ولا بدّ للسقوفِ من خشب العرعر، ومن قَصَبِ "شمّاخ"*. تتعاضدُ الجدرانُ تحت سقوفها، وتصدُّ الرياح. ويمنعُ التبنُ الأمطارَ عن البشر والماشية، وعن عُدول الطحين وسُعون المخيض. تلك هي الفِطرةُ التي فطرت القرويين على اختراع الصبر. البناؤون موهوبون في قراءة الحجر، يأخذونه من مراجعَ موثوقة. من السناسلِ والرُجوم*. ومن رؤوس الجبال، حيث الأثقال الراسيةُ، بعضها كان قبوراً، وبعضها كان أديرةَ لنُسّاكٍ هاربين من بطشِ الأباطرة.
البيوتُ في بئرخداد تستقرُّ على تضاريس متمرّسةٍ في الترابِ والصخور. تحفُّها تلاعٌ متوسطةٌ الاتساع والانحدار، بعضها تعبيرٌ مجازيٌّ عن التلعة، لصغر حجمها وبعضها عُرقوب، وهو مقطعٌ من تربةٍ صلبة، حينَ يُمهّدهُ الحرّاثون يُسمّى حابولاً. ولا شأنَ للبيوتِ في دروس الجغرافية.
الحُوْشُ سِوارُ البيت. وحامي الذِّمار. الغُرفُ مفتوحةٌ للضوء. رائحةُ حطبِ الشيحِ لا تنامُ. في الزوايا تتناثرُ الهياكلُ العظميّةُ للأشجار. إنها القوادمُ والأوثارُ والمناسيسُ والمحاريثُ والشواعيبُ*. تلكَ أخشابُ اللوز البريّ والبلوطِ الجبليّ، المشدودة بحبال الكتّانِ وأمعاء الماعز.
في نهايةِ الستينات، بدأت نهايةُ الحجر في بئرخداد، جاءنا الأسمنتُ والحديدُ وخشبُ الطوبار. شاهدَ النَّاسُ عمَّالَ النافعة، وهم يسكبونَ الإسفلتَ على وجهِ التراب. سيكونُ ما يَكُونُ. هدرت الحنفيَّاتُ في البيوت، وطلى القرويون بيوتهم بالأحمر، وأخذت الطوابينُ في الانطفاء. جاءنا الكازُ في بوابير النحاس، ثم كانت الأفرانُ، وَكَانَ الخبزُ الأبيضُ القليلُ الرائحة.
باتَ بيتُ عبدالنعيم الأول مخزناً للعلف. رحلَ عمي يوسفُ إلى القرارة، مع ابن حجْر العسقلانيِّ. شيَّدَ أبي داراً في "تلعةِ ماضي". وانسحبت السنابلُ من "الحُوَّرِ"*، وغادرت الحراذينُ والأفاعي جحورَ الحكايةِ مع الرواة الذين ماتوا لأجلِ التشويق، وبكى آخرهم على أوِّلهم، في أيِّ كهفٍ، وعلى أيِّ حكاية..

----------------

· الحراذين: جمعُ حرذون، وهو من قبيلة السحالي. ويظنُّ القرويون أنه يصلي على الصخور.

· الدوامر: المفردُ دامرُ، جزءٌ من سكك الحديد، يحمي سقف البيت من الانهيار.

· العدول: أكياسٌ من الصوف، يُخزنُ في الطحين. الواحدُ عِدْل، وغالباً تدهمها الفئران.

· الصنوع: حُفرٌ في الطور، تتجمّعُ فيها مياه الشتاء. المفردُ صِنْعٌ.

· الرِبْق: سلسلةٌ حباليّةٌ متصلة تُربطُ إليها أقدامُ الماشية ليلاً.

· السُعون: جلدُ الشاة الذي يُخضُّ فيه رائبُ اللبن، فيصبحُ مخيضاً، وتخرج الزبدة من قلبه، وهو أيضاً الشكْوة.

· الغيصلان: ومن أسمائه العيّصلان أيضاً، وهو نبات بصليٌّ شديد المرارة، ويقال إنه سام، ويقول الفلاحون لمن كان غبيّاً، بأنه "لا يعرفُ الطيطَ من الغيصلان". الطيطُ ذو طعم مقبول.

· الشقران، الذيابات، المعمّرين، القعامرة، الجبارات، عيال سلامة، الجماعين، البرارشة: عائلات من الرفايعة.

· الجِلبّان: من البقوليات، يُشبهُ البازلاء. طعمهُ حلو. وكنتُ أفضّلهُ من تلعة عبدالله الجبارات.

· الحَرْمل: بذورٌ تتحوّلُ من أزهار، ولها رائحةٌ قويةٌ تدخلُ من السفوح الى البيوت مع ندى الصباح.

· القعفورُ والشحّوم: ويُسميان أيضاً القُعفيْر والرقاطيّ، وهما نباتان بصليّان شهيان، تحتاجُ الى محفار لإخراجهما من جوف التربة في الربيع.

· الشُّحوف: قطع الحجارة الصغيرة التي تسدُّ الهواء بين حجارة البيوت.

· شمّاخ: بلدة جبلية في الشوبك في محافظة معان، تكثر فيها الينابيعُ والشلالات، وهي موطنٌ لأشجار العرعر والقصب.

· السناسلُ والرجوم: تكوينات حجريّة. فالسنْسلةُ أكثرُ انضباطاً بالتشكيل، فهي جدارٌ بين البساتين، أو يستندُ على كتفها التراب، فيما الرجمُ تلةُ حجريّة، وكلاهما من فعل فاعل.

· القوادمُ الأوثارُ والمناسيسُ والمحاريثُ والشواعيبُ: القوادمُ: هيكلٌ خشبيّ يُشدُّ إليه الزرعُ، ليُحملَ على الدابة، ثم يشدُّ الرجّادُ الرحالَ الى البيدر، الوِثْرُ: هيكل خشبيُّ يوضعُ على ظهر الحمار، لتسهيل الركوب، وللتخفيف عليه من ثقل الوزن، وهو يُثبّت جيداً فوق قماشٍ من الخِرَق، يُسمّى "لبّادة" وهي "البردعة". المنساسُ مختلفٌ على شكله ووظيفته في القرى الأردنية. في بئرخداد هو عصىً طويلة، تساعدُ الحرّاث على توجيه الدابة في خط مستقيم. المحاريثُ جمع محراث بدائيّ، والشواعيب واحدها شاعوبٌ، يحملُ التبنَ والحَبَّ، ويرتفعُ مع الهواء الغربيّ، لتذرِيةِ المكونات، وفصْلها فصْلاً رائعاً.

· القرارةُ، الحُوَّر، وتلعة ماضي: مناطق في بئرخداد. القرارةٌ منخفضةٌ، وهي بيت المساكب والقثّاء. الحُوَّر: أرضٌ يميلُ ترابها الى البياض. تلعة ماضي: ملعبٌ للعصافير والشنّار، عند زعرورةٍ تأكلُ معي دائماً خبزاً يابساً، وتشربُ "نِسِيَّة". وهذه من اللبن حينَ يُصبحُ عصيراً لريق حصّادٍ في ظهيرةِ صيف.
عن مجلة "اللويبدة".. والصور لعدسة لُجين محمد الرفايعة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :