facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




وداعاً .. يا جورج زعني !


صالح القلاب
17-12-2015 02:23 AM

جورج زعني.. عندما فاجأني نبأ «رحيله» عن هذه الدنيا الفانية سرح بي الخيال بعيداً إذْ أن أوَّل مرة التقنية فيها كانت قبل أكثر من ثلاثين عاماً عندما ذهبت إلى شارع «المكحول» مساءً, منطقة الحمراء, وقصدت مطعم: «سمغْلر إنْ» الذي كانت قدماي تأخذني إليه وأنا مغمض العينين والذي كان في حقيقة الأمر منتدىً ثقافياً كان الهاربون من هدير المدافع وصراخ القذائف يأوون إليه في ساعات المساء من أجل ما كان يصفه (أبو عمار): «جلسات التحشيش الفكري» ومن أجل الاحتماء بعتمته المخملية من الشظايا المتطايرة في سماء بيروت كطيور السنونو الهاربة من إغارة صقرٍ يدفع مخالبه أمامه بسرعة إحدى المقاتلات الإسرائيلية التي طالما كانت تستهدف هذه المنطقة من لبنان لتلقي «حمولتها»... وتعود إلى قواعدها نحو الجنوب بسلام .
عندما وضعت يدي فوق كتفه لأقول له وداعاً لا لقاء بعده أطلق صرْخة مدوية أتبعها بالشتيمة اللبنانية المعروفة (أخْتك) التي كان ولا يزال يسمعها عابر السبيل ألف مرة وقال: هل أنت راحل مع الراحلين؟! ..إلى أين ستذهبون.. أتمنى وأنا أشعر الآن أن صدري يتمزق لو أننا لم نعرفكم ولو أنكم لم تعرفونا.. هل هناك بلدٌ أفضل من لبنان تريد الذهاب إليه.. هل ستجدون عاصمة ستحتضنكم كما احتضنتكم بيروت التي بقيت تستقبل وافدين وتودع راحلين منذ فجر التاريخ.. ؟!
لم أردَّ على جورج وكان وداعي له شهقة مكبوتة واحتضان لثوان خلتها وربما هو خالها أيضاً الدهر كله.. وتذكرت وأنا أحاول الإفلات والهروب منه أنَّ هذا الإنسان الوطني جدّاً والقومي جدّاً و»التقدمي» جدّاً قد أراد الـ «سمغْلر إنْ» كخندق لاحتقار القذائف وليس للاحتماء منها وكمثابة لـ «التحشيش الفكري» وكمنصة لخطابات شتم الفتنة والتنديد بالانعزالية.. ورفض مقولة: «إن الطريق إلى فلسطين تمر بجونية !!

لقد حوَّل هذا الإنسان المبدع, الذي عندما بدأ موسم الهجرة عن بيروت والرحيل عنها قصد, بعد طول ممانعة وتردد, لندن.. حيث نقل إليها بالريشة والقلم أوجاع وآلام الشرق كله فعاد منها بانتشار سرطاني استوطن كل خلايا جسده.. النحيل, ..لقد حوَّل شارع المكحول إلى تظاهرة سنوية تتحدى الرصاص والقذائف والاغتيالات وتتحدى خطوط التماس والقصف والقنص المتبادل.. كما حوَّل الـ «سمغْلر إنْ» إلى خيمة قومية وأممية.. ووطنية يأمها كل مساءٍ الذين جاءوا إلى هذه المدينة التي لا مثلها مدينة من أربع رياح الأرض هروباً بالتزاماتهم وقناعاتهم وشعرهم ونثرهم و»مناشير» وبياناتهم والذين ما أنْ يدلفوا إلى داخل هذا «الحانوت» حتى يجدوا جورج.. بابتسامته الجميلة يحتضن قصْعة كبيرة «جاطاً» يقلِّب ما بداخلها من مكونَّات الـ «فتُّوش» الذي لا مثله ولا أطيب منه ولا «أزْكى» لا في لبنان ولا في بلاد الشام ولا في الشرق الأوسط كله .
حاصر حصارك بالجنون وبالجنون

ذهب الذين نحبهم.. ذهبوا فإمَّا نكون أو لا نكون .

تفرقنا أيدي سبأ وكان محمود درويش, الذي أصابه سهم الفراق الدائم والرحيل المستمر في قلبه ففارقنا باكراً, أحد رواد شارع المكحول وأحد زوار «سمغْلر إنْ» الدائمين.. وكان فارس صحيفة «المعركة» اليومية التي كانت مجرد صرخة في بيروت التي خنقها الحصار.. ولعل وعسى أن تصل صرختها إلى أبناء الأمة العربية الواحدة.. ذات الرسالة الخالدة !!

في بيروت تعلمت الصحافة في شارع المكحول وفي «سمغْلر إنْ» وفي مطعم فيصل التاريخي, الذي خرَّج عدداً هائلاً من الكفاءات العربية والقيادات القومية قبل أن تخرجهم الجامعة الأميركية التي تعانق أبوابها أبوابه, أكثر مما تعلمتها في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية.. وفي بيروت تعلمت السياسة.. وتعلمت كيف اختار الكتب التي يجب أن أقرأها.. وتعلمت كيف أختار الأصدقاء.. وكيف أحاور منْ أختلف معهم.. وكيف أختار ثيابي .. وكيف اخترت زوجتي من بين كل نساء الكرة الأرضية .

للأسف لم يبق لشارع «المكحول» أي أثر ولم يبق منه إلَّا اسمه الذي غدا يشبه بقايا وشم على ظاهر اليد وللأسف.. لقد تحول مطعم فيصل إلى حانوت بائس للاتجار بـ «الهامبيرغر» وتحوَّل مقهى الـ «هورس شو» في شارع الحمراء إلى كوخ لبيع «الفلافل».. إن بيروت لم تعد هي بيروت القديمة .. عاصمة الأقلام والكتب والصحافة والأدباء والشعراء .. حتى صخرة «الروشة» باتت تبدو كـ «حوت» متوحش.. وحتى الـ «دولتشافيتا» تغيَّرت ورحلت مع رحيل الأحبة.. لقد رحلت هذه العاصمة الجميلة.. وحلت محلها عاصمة أخرى .. عاصمة ميليشيات ما يسمى: «حزب الله» وعاصمة الذين فجروا أجساد رفيق الحريري ورينيه معوَّض وجورج حاوي وجبران تويني وسمير قصير .. وغيرهم بالقنابل المتوحشة المجرمة .. ووداعاً .. وداعاً يا جورج زعني.. أيها الإنسان الذي كان موجوداً في هذا البلد العظيم عندما عرفت البشرية أوَّل حرف في سفْر الكتابة والقرائة !!

الراي





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :