بالرغم من عدم وصول الأدبيات الباحثة في مفهوم الثقافة إلى تعريف مانع جامع لما نعنيه بالثقافة، إلا أن المتفق عليه بالمجمل أنها منظومة من المعتقدات والقيم والأعراف، والعادات والفنون والقوانين والمثل العليا، وهي تراكم بنسب متفاوتة يستقر في الوعي الجمعي لشعب معين، فيقال: الثقافة الغربية لشعوب أوروبا وأمريكا، أو الثقافة الإسلامية للشعوب الإسلامية أو العربية للعرب المسلمين والمسيحيين، وهناك من يتحدث عن ثقافة إنسانية بفعل العولمة التي تفرضها الأمم المهيمنة بوسائل الاتصال، وهيمنة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية الإلكترونية.
والثقافة كما هي الفرد عرضة للفصام أو ما يسمى (Cultural schizophrenia)، وهي اضطراب في بوصلة الثقافة الجمعية تضللها عن تلمس الواقع الصحيح، نتيجة اضطراب في الفكر والذاكرة وسيطرة الهلوسات المبنية على الشك والشعور بالاضطهاد وانعدام الإرادة والركون إلى البلادة والعجز عن معالجة المعلومات والاستجابة للمستجدات، وهذا ما يصدق للأسف على الثقافة العربية المعاصرة بمفهومها الواسع، فمساحة الثقافة العربية تضيق لصالح الأدلجة العقائدية، التي ترنو نحو الوراء والماضي العريق، وتستمر في اجترار التراث العتيد المعبق بالانتصارات والفتوحات ولا تتعدى ذلك، نظراً لقصورها في نهاية عقود التحرر العربي أمام انكسار حواجز الثقافة بسبب التقدم التكنولوجي للثقافات المتقدمة حضارياً وصناعياً، وانسحبت الثقافة العربية والإسلامية من حلبة سباق الحضارات كرد فعل طبيعي على ضمور الهمة وضعف الأمة، وأعلنت القطيعة مع الآخر، وعدم الاعتراف بحق الثقافات الأخرى في الاختلاف والتنوع أو الندية، على اعتبار أن ثقافتنا هي الأنقى والأسمى، هذا الإصرار على السمو ولّد روح التعصب والشعور بالاضطهاد والتمسك بنظرية المؤامرة، وانكفأت الثقافة العربية على نفسها، وغرقت في التأمل والتمني والدعاء في المساجد: "اللهم أزل عنا الغمة وأعلي من شأن الأمة..." والدعاء على الكفار والأعداء واليهود "اللهم شتت شملهم وفرق أمرهم ورمل أزواجهم ويتم أطفالهم".
ثمان وستون عاماً والدعاء لم يتوقف في كل يوم جمعة، وإسرائيل تنمو وتكبر، والحلم العربي يصغر شيئاً فشيئاً والفجوة تزداد بين الواقع والمأمول وبين الذات والآخر، ويتمدد التطرف للأنا إلى درجة معاداة الأنا الإسلامية ذاتها التي انقسمت بدورها إلى سنية وشيعية، وكذا الأنا العربية إلى مؤمن وكافر، وضاق الانقسام من الأمة إلى القطر إلى القبيلة حتى وصل إلى العائلة الصغيرة، ولنا بمن قام بقتل والدته بسبب اختلافه العقائدي معها مثل وعبرة، أو انقسام القبيلة الواحدة بين "داعش" وقوات العشائر العراقية المحاربة لها عبرة أخرى، وأخيراً وصلت ذروة الانفصام عند من شرع بتفجير نفسه في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي كان يسبح باسمه في صلاته قبل الذهاب لتنفيذ المهمة.
إن منسوب التعصب العالي جعل من هؤلاء لقمة سائغة لمروجي الإرهاب والتطرف، واختراقهم وغسل أدمغتهم، واستعمالهم في مخططات ترمي لتعميق الفجوة بين الحضارات وتعايش الأمم، ووصم الثقافة الإسلامية تحديداً بأنها ثقافة العداء للآخر والموت والتدمير، وها هي حادثة "نيس" الهمجية البشعة والتي لن تكون الأخيرة تترجم هذا التصور، رُغم أن التعليقات الشاجبة والمستنكرة هي الغالبة إلا أننا نستشف من القليل روح التشفي كالقول: "بنظرية المؤامرة"، لترحيل المسلمين من أوروبا، أو ليذوقوا من نفس الكأس المرّ الذي شربناه.
إذا كانت ثقافتنا قد وصلت إلى هذا الحد من الانفصام الحاد والمزمن، فهل لنا بثقافة جديدة؟.. الثقافة ليست سلعة تستورد ولا برنامج جديد معد يتبع، الثقافة تغلغل نفسي واجتماعي وعقائدي، وهي تعكس قيم الناس وأعرافهم وعاداتهم وفنونهم، وقوانينهم ومثلهم العليا، وهي ما يجب الرجوع إليها واحدة تلو الأخرى، ومراجعتها مراجعة نقدية فاحصة وجريئة وخارجة عن المألوف والخوف، يتولاها الجانب المتنور في الأزهر الشريف والنجف الأشرف، والمفكرين والباحثين المتخصصين في الجامعات ومنظمات المجتمع المدني، وبغطاء سياسي شجاع ولا محدود، ولا يتراجع أمام تُهم العمالة والزندقة والتكفير والتخريب، فنحن جزء من عالم يتعولم بسرعة هائلة شئنا أم أبينا، فالبوصلة الموجودة على سجادة الصلاة يصنعنها لنا الصينيون، ويشحنها الأوروبيون ويصلي عليها المسلمون، ويأتينا البخور مصنعاً من الهند وكوريا، ونستخدمه في الغالب لا لتعطير الجو بل للشعوذة وإخراج الجن من جسم المريض وجلب البركة والرزق، متناسيين قوله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين".
الإيمان بالله وبالدين راحة للنفس، وتهذيب للسلوك، وتقويم للاعوجاج، فجوهر الدين هو المعاملة ويجب أن يترافق مع الإيمان عمل وعلم وجهد، ومهمتنا تسليط الضوء على الوقائع المضيئة في ثقافتنا المحفزة لإعمال العقل والمنطق، والحض على التسامح وقبول الآخر، والعمل والبعد عن التواكل، والركون إلى الدعاء، فقد روي عن رجل جاء إلى عمر بن الخطاب وقال: جملي أصابه الجرب هل أدعو الله أن يشفيه؟.. قال له: اجعل مع دعائك شيئا من القطران.