facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




زيطة


سامر حيدر المجالي
15-11-2008 05:25 PM

هنالك شخصية اسمها ( زيطة ) في رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ .. شخصية قل أن يظفر المرء بمثلها ، تبعث على الغثيان والقرف وتثير فيك كل ما في العالم من مظاهر الاشمئزاز . تسكن مرتعا للديدان والقذارة ، ظاهرها أسود من قلة النظافة وهجران أسبابها ، وباطنها أشد سوادا بسبب ما يسكنها من حقد على الوجود وغل تجاه الجنس البشري برمته ، وغرائز بهيمية تطفح إلى العلن بلا عقل يلجمها أو يبقيها طي الكتمان .

شخصية زيطة برغم احتلالها حيزا هامشيا في بنيان الرواية ، إلا أنها تحتمل أوجها متعددة من التفسير والفهم ، مما يجعل من التوقف عندها ، ومحاولة فك بعض أسرارها وما ينطوي عليه الترميز من خلالها ، عملية غنية خلاقة ، قد تقودنا إلى اكتشاف بعض مجاهيل واقعنا المستترة ، وسمات مجتمعاتنا الغائبة عن مدى أبصارنا . خصوصا إذا توقفنا ودققنا بنوعية العمل الذي كان يمتهنه زيطة .. فقد كان متخصصا في صنع العاهات للشاذين والمتسولين ، العاهات الكاذبة طبعا ، من عمى وكساح وأيد وأرجل مقطوعة ، كل ذلك بمهارة فائقة ، تعادل أو تجاوز مهارة أطباء ألـ ( plastic surgery ) في وقتنا الراهن .

هل هناك أشخاص أو قوى متخصصة في صنع العاهات وقلب الخلقة الطبيعية لشخص أو مجموعة من الأشخاص إلى خلقة ذات عاهة بينة تستجلب العطف والإشفاق بل والتقزز في بعض المواقف ؟ هذا الأمر يبدو غير معقول وعصيا على فهم الفطرة السوية للإنسان . غير أن خروجنا على التعريف التقليدي للعاهة قد يمكننا من الولوج إلى عالم حقيقي قائم واقعا لا مجازا ، نشاهده بأم أعيننا ونعيشه كل يوم ، عالم يشابه بطريقة أو بأخرى ذاك العالم الذي وصفه نجيب محفوظ عبر شخصية زيطة وزبائنه في الخرابة . وهنا تكمن قيمة الرمز وتبرز أهمية القراءة الذاتية للشخصية .

إذا اعتبرنا العاهة عيب خَلْقي أو نفسي يقعد بصاحبه عن ممارسة الحياة بشكل طبيعي ويثنيه عن النهوض بأعبائها وتحقيق المنجزات التي تشعره بالرضا تجاه نفسه وتمكنه من التناغم مع إيقاع الحياة المستمر إلى قيام الساعة . عندئذ يمكننا أن نعد الكثيرين ممن يصنفون في عداد الأشخاص الطبيعيين عاهات حقيقية ، بل يمكننا أن نرى مجتمعات بأكملها تعاني عاهات لا حصر لها وتنكص عن أن تكون شيئا ذا قيمة في سلم الوجود برغم اكتمال أسباب النجاح لها لو سلمت من عاهاتها المتجذرة . مقرين رغم ذلك بأن بعض أصحاب العاهات استطاعوا بالإرادة والعزيمة تحقيق منجزات خالدة في سجل البشرية ، لكننا هنا نتحدث عن القاعدة العامة وليس عن الاستثناء .

حين يعيش الفرد والمجتمع حرمانا حسيا حقيقيا إلا ما اتصل منه بحاجاته البهيمية ، فتكثر هلاوسه الذاتية أو المفروضة عليه من خلال عمليات غسيل دماغ مستمرة ، ويصدّق بالنتيجة أنه في خير ونعيم برغم كل ما يعانيه من بؤس وشقاء . وحين يترسخ في وجدان هذا المجتمع أنه غير قادر بطبيعته على مقاومة الصعوبات التي تعترض سبيله ، ويرى نفسه في منزلة دون منزلة الآخرين ، ويتلقى بالإيحاء أو التصريح ما يفيد عجزه عن إدارة شؤون حياته العامة ، وحاجته المستمرة إلى مصدر للإلهام والفيض والعطاء . بل حين يأخذ فتاتا من حقه البين الواضح على شكل هبات وأعطيات ومكرمات ، تستوجب عليه أن يلهج لسانه طوال حياته بالشكر والثناء لمصدر الإحسان المتدفق وينبوع العطاء الغزير . وحين يكون مؤتمِرا بأوامر لا تقبل النقض أو النقاش ، أوامر تملي عليه مواقفه وعواطفه وردود فعله ، وحين يعجز عن التعبير عن مكنوناته وتغدو ثقافته مجرد حركات سمجة وجمل من النفاق والتزلف محفوظة عن ظهر قلب ، عند هذه المرحلة يكون المجتمع برمته قد أصبح عاهة حقيقية وتردى إلى أدنى درجات الوجود .

لا فرق هنا إن تحدثنا عن فرد واحد أو مجموعة من البشر فالطريقان يؤديان إلى بعضهما ، وزيطة يمارس مهمته على الصعيدين ، مستمتعا بنتائج عمله العبقري وقدرته الفذة على قلب أدمغة الناس وإدخالها منطقة العجز والنكوص . أما من هو زيطة ؟ فهذا شأن آخر ، ولعله هنا ليس شخصا اعتباريا ، وإنما هو عمل مؤسسي ممنهج تشترك في انجازه جهات كثيرة .. أجهزة إعلامية مسيرة ، قوى بوليسية مرعبة ، مجموعة من الموروثات البالية ، تتعاون كلها على الفرد منذ لحظة الولادة فترعى غرسها بكل همة وتتعهده إلى أن تتأكد من أنه سيكون عاهة حقيقية في مستقبله حياته . ما هو همُّ الفرد في هكذا نوع من المجتمعات ؟ انه لا يخرج عن سلسلة أكل .. شرب .. نام .. هتف ، وركزوا على ( هتف ) كثيرا ، فالسلسلة لا يمكن أن تكتمل بدونها . نسيت القول أن آخر ظهور لزيطة في الرواية كان عندما ألقي القبض عليه وهو يقوم بنبش المقابر بهدف سرقة الحاجات الثمينة التي تدفن مع أصحابها من الأموات .

هذا يبدو منطقيا جدا ، ففي عالم زيطة يستوي الأحياء بالأموات ويلتقي العالمان في نقطة واحدة ، فلا يمكن التمييز بينهما . أكل .. شرب .. نام .. هتف ، إن كنت من هؤلاء فاحذر على نفسك كثيرا ، واعلم أنك لست بريئا ، لأنك قد تكون إصبعا في يد زيطة ، تمارس عملا متقنا في ترسيخ عاهة نفسك وعاهات الآخرين من حولك . للحديث بقية قد تأتي إن سلِمَتْ من الدكتور زيطة ......





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :