facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




ذكـر وأنـثى


02-12-2008 07:55 PM

في متجر العطور ، حيث الجو عابق بنسائم عطرية لينة تجوب الفضاء شهية مبهجة ، والأصناف مرتبة فوق الرفوف بعناية بالغة ، بأشكال وأحجام وألوان متعددة ، والبائع متأنق كعريس في ليلة زفافه ، يتحدث بصوت خفيض ، من ورائه موسيقى ناعمة ، يناسب إيقاعها هدوء المكان ووداعته .. هناك وقف مازن يتحدث إلى البائع ، منتقلا وإياه من رف إلى رف ، ومن صنف إلى صنف ، حتى وقع اختياره على صنف محدد ، فهمَّ بدفع ثمنه ومغادرة المكان .....

رآها مقبلة من باب المتجر ، تتجه نحو البائع الآخر ، على وجهها مسحة من الجدية ، وفي خطواتها ما يوحي بأن الأرض لم تُبسط إلا لتسهيل طريقها وإيصالها إلى مقصدها . قلَّبت عينيها في المكان ، ووقفت غير بعيد منه فاستطاع أن يصغي إلى حديثها ، ويميز سيلا من الغنج والدلال اقتحم مسمعه ....

" ماذا لديكم من أصناف جديدة ؟ "
" عندنا ما تحبين وتشتهين يا آنستي ، هل تريدين عطرا خفيفا فواحا ؟ أم ترغبين بعطر قوي مُركز ؟ "
" أعطني شيئا قويا نافذا إلى الأعماق " ....

نفذت الكلمات إلى أعماقه هو ، فساد الكون من حوله سكون رهيب ، وانسحبت كل الأشياء من خلفية الصورة تاركة إياه وحيدا في مأزقه . حدثها في نفسه قائلا : ( ما حاجتكِ إلى العطر النافذ وكل ما فيكِ يجتاح الأعماق فيحيلها إلى لهيب وحمم ؟!! ) . أخذ ينظر مشدوها .. إلى لوحة مليئة بالرموز والإيحاءات ، أو تمثال أجادت يد صانعه نحت التفاصيل وإبراز مكامن الجمال . أذهله كل شيء فيها .. قوامها متناسق يخلو من الزوائد إلا قليلا مما استقر في الأرداف والنهدين ، فتكورت ، الأرداف كقبة عاجية يحار الناظر في إدراك بديع هندستها ، والنهدان كصقرين متوثبين للانقضاض في أقرب لحظة . وجهها مستدير صفحته صافية تميل إلى الامتلاء ، أنفها دقيق وشفتاها تنفرجان قليلا في الوسط . شعرها يميل إلى القصر ، منحن إلى الخارج عند نهايته . بياض يديها وساقيها مثل بياض غمامة عابرة في سماء صيفية . ملابسها على المقاس أو تحت المقاس بدرجة ، تضيَقُّ فتعتصر جسدا يتفجر فتنة وإغراء .. تنورة بيضاء أقصر من الركبتين قليلا ، وقميص أسود انحل زره العلوي فكشف مساحة لا بأس بها من النهدين ، و شفّت نهايته عن بياض بطنها . كانت تتحرك بعناية كمن يحسب كل خطوة قبل أن يخطوها ، طلبت من البائع أن يرش لها عطر أحد الأصناف على طرف معصمها ، فلما رفعت معصمها إلى أنفها ، برز إبطها مثل مغارة جليدية بكر لم تطأها قدم إنسان . أما مكمن الفتنة الحقيقي وسر الجذب الرهيب فكان عينيها ، ليس في اتساعهما ولا في شدة البياض وعمق السواد في البؤبؤين فحسب ، وإنما فيما هو أهم وأخطر ، في النظرة المستسلمة .. الآثمة ، وداعي الغواية الذي يمتد منهما فيعتصر جسد الرائي وبقايا عقله ، مستخدما من الجبروت ما لا تستطيعه أمة من المحاربين الأشداء .

كان المشهد فوق احتماله ، أخذت دقات قلبه تتسارع ، وانطلق النبض متفجرا في الشرايين . احمرَّ وجهه وبدت أرنبة أنفه مثل جمرة مشتعلة جاوزت حرارتها حرارة باطن الشمس . غاص في التفاصيل الدقيقة ثم تجاوزها فولج إلى ما استكن بعيدا عن الأنظار . امتزج عالمه الخارجي بعالمه الداخلي فسرح خياله بغير رقيب ، وأنشأ عالما جديدا خاصا به هو ، عالما أعمق وأمتع من عالم بجماليون الخرافي ، فهو خالقه وباعث الروح فيه في آن معا ... عالما خلف الجدران ، حدد عمقه واتساعه ، وأثاثه ومكان السرير فيه ... عالما غير مستطاع إلا في الأحلام العاجلة والسيناريوهات المحترقة ، فيه أبواب مغلقة ، وجدران ضبابية ، وسجائر ، وخمور ، وموسيقى شرقية ، وملابس ، وعناق ، وقُبَل ، وكلام ناعم هامس . لقد انشأ في ذهنه رواية كاملة ، أحداثها تجري ضمن لحظة تم اقتطاعها من فم الزمان ، فلا قبل لها ولا بعد .. لحظة دائرية ، عند نهايتها تكمن بدايتها ، أرادها كالأزل أو أطول منه قليلا .

في غمرة انشغاله التفتت باتجاهه ، فرأت شعاع عينيه مصوبا إليها ، يخترقها من أعلاها حتى أسفلها .. تفاجأت للوهلة الأولى ، ثم تظاهرت بعدم الاكتراث فتابعت حديثها مع البائع وطلبت منه أن يلف لها زجاجة عطر وقع اختيارها عليها . غادرت المتجر بعد دقائق معدودة فمشى وراءها وتبعها كظلها من شارع إلى شارع ومن رصيف إلى رصيف . كان يتحرك حركة آلية ، ويتبع غريزته مثل ذئب تئن أضلاعه تحت وطأة الجوع والحرمان . لقد خبر كثيرا من النساء قبل هذا اليوم ، غير أن هذه المرأة استفزت فحولته بشكل مختلف . رأى فيها زمنا جديدا ، لا يشبه الماضي الذي ألفه في صباه ، زمنا يعج بالتناقضات ، بالعري الفاضح مختلطا بالفضيلة الساذجة .. يطلان من نفس المكان ، يتزاحمان عبر نفس الأثير ، يتجاوران وكأن كلا منهما يستمد قوته من الآخر . لم تعد الأشياء تسمى بأسمائها الحقيقية ، الفضيلة اختلطت بالتجارة ، والعهر تحول إلى فن ، والأجساد ملقاة على قارعة الطريق .. سوق نخاسة كأسواق العصور الوسطى ، غير أن تجاره اليوم متأنقون ، يحملون شهادات عليا ويتحدثون لغات أجنبية ، وجواريه كذلك ، يعرفن شروط اللعبة جيدا ، يتقن قولبة الأشياء واللعب على الحبال ، فَيَسْتَعْبِدْنَ من حيث يُسْتَعْبَدْن . انه يتخبط ضائعا ، يدرك حقارة ما يفعله في هذه اللحظة ، لكنه أضعف من أن يقاوم تيارا جائحا كالذي يعتصره الآن ، فليمش مع التيار إذن ، وليدفن رأسه بين الرؤوس .

دخلت ممرا ضيقا يصل بين شارعين رئيسيين ، فدخل وراءها . هناك التفتت إليه فجأة ، وقالت بعينين تقطران شررا :

" أنت يا هذا ، ألا تخجل من نفسك ؟ " .
" ولم الخجل أيتها الحلوة ؟ هل فعلت ما يضايقك ؟ " .
" انك تتبعني منذ خرجت من متجر العطور ، هل تظن أني غافلة عنك ؟ " .
" حاشا لعينيكِ الجميلتين أن تغفلا " .
" دعني وشأني إذن " .
" ليس قبل أن تدعيني أنت ... ".
" ما هذه البجاحة ؟ أنا لا أعرفك أصلا " .
" هكذا أنتن معشر النساء ، تقتلن القتيل ثم تمشين في جنازته . تلقين البذور في الأرض ثم تلمن السماء إن سقتها فأنبتت وأزهرت " .
" ما قصدك ؟ " .
" تعرفين قصدي تماما ، غير أنكِ مثل غيركِ .. متناقضة أو غائبة عن الوجود " .
" كفاك افتراء وانظر إلى نفسك أيها العربيد المنطلق من عقاله ، لا يرعى حرمة ولا يقيم وزنا لخلق قويم أو شهامة ... " .
" وهل رعيتِ أنتِ حرمة نفسكِ بهذا اللباس الفاضح ؟ " .
" هذا شأن شخصي ليس لك به علاقة من قريب أو بعيد ، لكنّ أمثالك يبحثون عن مسوغ من أي نوع كي يبرروا لأنفسهم دناءة أفعالهم . أكثركم كذلك ، تحشرون أنفسكم في زاوية ضيقة لمجرد خاطر أو هاجس يلوح من بعيد . تتخلون عن وقاركم وترمون مبادئكم وراء ظهوركم أمام شهوة عابرة . تتصيدون الهفوة وربع الهفوة ، بل أنكم لستم بحاجة إلى هفوات كي يسيل لعابكم وراء أول طريدة . تتعلمون وتحملون أعلى الشهادات ، لكن نظرتكم إلى المرأة لا تتغير ، جسد ومتعة ، ورحم وذرية . ثم إنكم أنتم أصل التناقض .. تبيحون لأنفسكم هتك أعراض الآخرين .. فان اقترب الآخرون منكم أو من بيوتكم ثرتم وحرقتم العالم من حولكم " .
" تتحدثين عن هفوات ، والأجدر بكِ أن تقولي جرائم . لا أدري بأي منطق أفسر كلامكِ المعوج . تريدين من الرجل أن يخرج من ثوبه الإنساني أو يغدو ملاكا كي لا يسقط في آلاف الشراك التي يواجهها كل يوم . لعلك تتحدثين بلغة زميلتكِ التي تقول " كن صديقي " ، هذا أسخف كلام سمعته في حياتي ، ليس لأني عاجز عن اتخاذكِ صديقة أو زميلة ، بل لأنكن تقتلن أسباب الصداقة في مهدها ، إذ تطلبن من الرجل .. الإنسان ، ما هو فوق طاقته . احتشمي وترفعي عن الابتذال ، عندئذ نستطيع أن نكون أصدقاء " .
" توقف عن اعتبار نفسك مركز الوجود ، وانظر لي كشريك وليس كتابع ، ثم عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك ، عندئذ قد تعتبرني صديقة " .
" تحلمين يا هذه ، تريدين أن ترضي غروركِ الأنثوي وتبرزي ما لذ وطاب من مفاتن جسدك ، دون أن تدفعي ثمنا مقابل ذلك ، انك تلقين الحمل كله على الطرف الآخر ، وتستمتعين بلعب دور الضحية البريئة ، بينما أنت في حقيقتكِ منغمسة في الإثم ، خالقة لاجوائه . لا أريد أن أعمم كي لا أكون ظالما ، لكن انظري الى الكثير من بنات جنسك ، ممن أغوتهن الكاميرات وعشقن الظهور أمام الجماهير الساذجة ، انهن ديكورات هدفها تلميع الصورة وجذب الانظار ، يجري ذلك على حساب كرامتهن فيطعن ويندمجن في اللعبة . ان كنت لا ترين بشاعة الصورة فأنت عمياء أو مخادعة " .
" بل أنت المخادع أيها الذئب البشري " .
" أنا ذئب بشري ! أيتها الأفعى الماكرة " .
" يا لوقاحة عينيك ! " .
" ملابسكِ أوقح " .....

عند هذه المرحلة كان صوتهما قد علا كثيرا ، فتجمع المارة حولهما وكثر المتطفلون . مرت دورية شرطة بالمكان فعرفوا تفاصيل الذي يجري من الجمهور . اقتادوه من رقبته ، سأله الشرطي :

" ما اسمك أيها الوغد ؟ " .
" مازن " .
" لقد وقعت في شر أعمالك ، سوف تبحث عن الرحمة ولن تجدها " .

ألقوا به في السيارة بعد أن قيدوا يديه . أخذوه إلى المخفر وتناوبوا على توجيه الصفعات والركلات إليه . ألقوه في النظارة فزكمت انفه رائحة العفونة والعرق المنبعث من الأجساد التي ازدحم بها المكان . أما هي فكانت قد وصلت إلى بيتها ، فبدلت ثيابها وفتحت زجاجة العطر الجديدة ، تأهبا لمشوار المساء .....





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :