facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




طير(ن) بلا جنحان .. كيف يطير !!


محمد الداودية
03-03-2018 02:01 AM

سيرة روائية «2»
تغرّبتُ أربعة عشر عاما، ابتدأت في المملكة المغربية يوم الـ 13 من آب عام 1998 وانتهت في جاكرتا يوم الـ 26 من حزيران عام 2012 عملت خلالها سفيرًا فوق العادة لبلادي وملكي في المغرب واليونان واندونيسيا.
كنت ازور الوطن مرتين او ثلاث مرات في العام، فأهرع الى امّي جظة، اقبّل يديها وقدميها واقبّل رأسها واطلب الرضا. كنت أقرّعُ نفسي والومها وأقول حانقا:
- هذا لا يكفي. انا مقصر مع هذه المرأة العظيمة.
هي لا تتذمر كما يجب. ولا تفصح عن حاجاتها. فقط تظل كل العمر، تغفر لي تقصيري وتبرر لي انشغالي بنفسي وابنائي وعملي، تجد لي الأعذار وتختلقها، شأن كل الأمهات، في كل العالم.
عندما اقترب موعد تقاعدي قلت لنفسي:
سأرجع الى صدر أمي، سأدللها. سأعوضها شيئا من فضلها الذي لها في عنقي.
كانت تقول لي:
لم يرضع طفل في العالم كما رضعت يا محمد، اربع أمهات ارضعنك وكنت شرِهاً جدًا.
وكنت أرد عليها مداعبا:
يا ست الكل، يا ام محمد، لا تَمُنّي عليّ بالحليب، سأشتري لكل واحدة من امهاتي اللواتي أرضعنني، بقرةً هولندية حلوباً، وانت، ساشتري لك بقرتين.
فتعلق بزهو مَن في يده الحُجّة الدامغة:
إِمامُ المسجد يقول، لو حمل الابنُ امَّه على ظهره وسيرا على الأقدام، من هنا الى مكة، ذهابا وإيابا، لتأدية فريضة الحج، ما أوفاها حقها.
فأقول ممازحا:
يبدو انّ هذا الإمام اصبح إماماً بعد أن ماتت أمّه! أو انه يسكن قرب الحرم المكّي!

سيدتان مهابتان
أمّي جظّة، متوسطة الطول، أمْيَلُ الى طول أمّها فضية، لا الى طول ابيها مزعل. حنطية بلون القمح والصبح والحناء والشفق. نحيلة ورشيقة كغزالة ركضت ألف عام. بِكْرُ جدي مزعل وجدتي فضية والأثيرة عندهما بلا منازع. قياديةٌ حازمة مُهابة.
كان إخوانها وأخواتها يحترمونها ويتعاملون معها كأمِّ ثانية لهم. نشيطة جدا كبندول ساعة لا يتوقف عن الحركة. ستّ بيتٍ متفانية، لا ترتاح ولا تتوقف عن العمل المنزلي، منذ ان يُعسعسَ الليلُ ويتنفس الصبحُ، الى ما بعد عَشاء جميع افراد الاسرة ووضع الصغار في أسرتهم وسحب الاغطية الدافئة عليهم.
هي من اورثتني فضيلة الحركة والعمل والإنتاج والعطاء.
وامي جظّة متخصصة في إصدار الأوامر التفصيلية الدقيقة الى شقيقاتي كي يؤدين اعمالا محددة، كانت طاغية في المتابعة، صارمة في التدقيق، لينة العريكة في المحاسبة والتوبيخ والعقاب.
كان تأثير جدتي عليها بارزا.
انجبت أم محمد خمسَ إناث وخمسة ذكور. ارضعتنا كلنا حليبا طبيعيا. تحملت نهمنا و»قامت» بنا كلنا. نهضت ام محمد بأعباء ثقيلة، لا ادري أيُّ عزم مكّن تلك السيدة المعانية من القيام بها. اتعبْنا هذه السيدة بلا رحمة، وانا تحديدا اكثر من اتعبها، اتعبتها اكثر من الاخرين مجتمعين. كنتُ تعبَ عمرها.
كنت ولدا شقيا جداً، سببت لها آلاف المشاكل مع الأقارب والجيران، وكنت اسمع هذه السيدة الطيبة وهي تبرر شقاوتي بالقول:
يقولون إنّ الأولادَ الأيتام اكثرُ غَلبةً وشقاوةً ومشاكلَ من غيرهم.

طير(ن) بلا جنحان ... كيف يطير ؟!
عندما توفي والدي وانا طفل في الخامسة مدت والدتي ساقيها ووضعتني عليهما واخذت تهزني وهي تغني مدة طويلة:
حسرتي عالطير قصوا جناحه.
طير بلا جنحان كيف يطير.
وظلت تهزني وتغني وتبكي. وتهزني وتغني وتبكي. توقفت فقط، حين رأت انه نبت لي جناحان متينان قويان اقلعا بي وكان ذلك قبل الاوان بسنوات وسنوات.
ما أجبرَ الأمهات!.
ظلت تتوهج على صدر أم محمد اثنتان وعشرون عصملية رشادية ذهبية، بعضها عثماني وبعضها إنكليزي، يَنْظُمُها طوقٌ سميكٌ من المخمل الاسود. كنت أُمسك القطعَ الذهبية المستديرة واعبث بِهِنّ وانا على حِجْرها. كنت لا أَمَلّ من عدّ العصمليات وسماع صوت خشخشتها ورنينها الصافي النقي.
لماذا العصمليات دائما في رقبتك؟
لأنها المكان الأمين.
ماذا ستفعلين بهنّ يا امّي؟
الذهب للعوزات واللايذات يا ابني. الله يكفيك ويكفينا شر اللايذات.
ذات مساء عددت العصمليات، مرة تلو المرة فإذا بهنّ قد نقصن واحدة. لا بد ان سببا قاهرا دفع امّي الى التفريط بها.
اين ذهبت العصملية يا امي؟
ذَهَبَت الى الأطباء. ما فكّ رقبة اختك الا العصملية.
كانت شقيقتي خديجة تشهق وتسعل حتى يخرج الدم من انفها. حملَتها امّي بصحبة عمي جعفر الى عمان، غابت ثلاثة أيام وعادت تحملها وقد استردت عافيتها ولونها وشقاوتها.
لم تكن ام محمد تطيق نزع طوق القطيفة الأسود من رقبتها حتى عندما كانت تدخل الى الاستحمام. يظل الطوق ملتصقا برقبتها وكأنّه وشم منقوش عليها.
اصبحت ألاحظ التناقص عندما اعبث بالطوق وأعدّ العصمليات المشبوكة فيه.
لماذا تتناقص الرشاديات يا امي؟ لا يوجد سوى عشر عصمليات.
غدا تكبر وتشتغل وتشتري لي بدلا عنهن.
وتضيف وهي توشك ان تبكي:
مَرِضَ عمُّك جعفر وترك الشغل. فأعطيته العصمليات. مرت علينا أيام سوداء، الله لا يعيدها، اكرهتني على بيع عدد منهن.
عندما أصبحت في الرابعة عشرة، كان طوق القطيفة المخملي الموشوم على صدر امّي، الذي شكّل للأسرة ضمانة كبرى، يضم ست عصمليات فقط.

مفارقة مرعبة ... تحدث معي فقط
غبت عن هذه المرأة الجميلة طويلا.
كان ينقصني ان اراها. وينقصها ان يكون ابنُها البِكرُ حولها. لم يكن ينقصها المصروف بقدر ما كان ينقصها ان يحفّ بها من افنت عمرها في رعايته ودعمه والذود عنه.
كان مُعلَنا منها ومعروفا للجميع انني الأغلى عندها. فقد كنت بِكْرها وكنت المحروم الذي لحقه اليُتمُ مبكرا قبل ان تسقط الأسنان اللبنية من فمه.
رجعت زوجتي ماجدة والابناءُ من جاكرتا الى عمان يوم الـ 12 من حزيران 2012. رجعت أم عمر لتلتحق بابننا عمر من اجل إعداد منزلنا واستكمال نواقصه واجراء الصيانة اللازمة ليكون جاهزا حين عودتي واكتمال عقد الاسرة.
حجزْتُ على الخطوط الجوية القطرية يوم السادس والعشرين من حزيران عام 2012، جاكرتا -الدوحة -عمان، فتقاعدي من الخدمة في وزارة الخارجية يبدأ يوم الثامن والعشرين من حزيران عام 2012.
يوم الـ 25 من حزيران، أُدْخِلتْ امي الى المدينة الطبية، لم تكن تعاني امراضا رئيسة ولا حتى من توأمي السكري والضغط.
هاتفني عمر وقال بجدية:
جدتي متعبة جدا وهي تسأل عنك. ارجع يا والدي بسرعة.
يبدو ان الوضع صعب جدًا.
هو كذلك يا والدي.
هل يمكن ان اتحدث معها بالهاتف يا ولدي؟
سأحاول.
لم تنجح محاولاته.
ذهبت ام محمد في غيبوبة طويلة. ادركت انّ الأجلَ يدنو منها ويحوم حولها وانّ عليّ أنْ أسابق الزمن كي ادرك محبوبتي.
غيرت حجزي الى الخطوط الجوية السعودية، جاكرتا-جدّة-عمان. وصلت الى عمان فجر يوم السادس والعشرين من حزيران، ومن المطار حملني عمر الى المدينة الطبية وكنا نجهش بالبكاء.
لم أدرك أمّ محمد. لم تعد من غيبوبتها.
أربعة عشر عاما وانا أُمَنّي نفسي بأنني سأعوّضها عن جفاف غيابي وعن يباسه وعن قسوته وعن فظاظته وعن جلافته وعن بشاعته.
أربعة عشر عاما وانا أمنّي نفسي بانني سأدللها وسافرّحها وسأنصفها وسأحفّ بها.
سابقتُ الزمن لكنني لم ادركها.
كان الفرق بيننا أربع ساعات فقط.
أي مقادير هذه التي حرمتني من أن تموت امي بين يديّ كما تمنّت!.
أي مقادير هذه التي حرمتني من أن أغمض عينيها كما تمنيت!.

لم أدرك العديدَ من أحبتي
لم أدرك والدي حسن أبو علي، الشهم الجواد، جذري العميق الذي كان ينشج وهو يغالب الموت في غرفة المستشفى الطلياني بعمان حرقةً على مصيري ومصير شقيقتي خديجة، الموحش المظلم المجهول.
لم أدرك امّي جظة، التي لم ينضب عزمها من اجلي، النسمة العليلة التي ظلت تهبّ عليّ في هجير العمر، دوحتي الظليلة واللبؤة التي ذادت عني. امّي التي اتعبتها كثيرا ورغم ذلك بقيت الأثير عندها.
لم أدرك عمّي الجليل المهيب، جعفر المجبول من الرحمة والتقى والطيبة في ابهى تجلياتها الانسانية.
لم أدرك جدّي مزعل، الفارس الشهم سيد الرجال والعطاء وينبوع الصبر والحكمة والرشد.
لم أدرك جدّتي فضية، النحيلة القصيرة الزعيمة الحكيمة التي شالتني بعينيها ورعتنا انا واخوتي بحنو وتمكنت من تدبير حياتنا بالنزر القليل من الامكانيات.
لم ادرك حبيب قلبي الملك الحسين الذي ارسلني سفيرا الى المملكة المغربية وصعد الى الباري دون ان أتمكن من القاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، لم أدرك الذي اكرمني وجاد عليّ بلقب النشمي، اغلى الاوسمة وأثمن الهبات.
كيف تسنى لقلبي المرهف ان يتحمل كل تلك الفجائع والغيابات المُرّة اللعينة ؟!
كيف اغفر لنفسي كل ذلك التقصير؟!
ما أقسى الغربة وما أفدحَ ضريبتها!.

يتبع السبت المقبل

الدستور





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :