في يوم الإثنين الماضي انطلقت الطائرة من عمّان وحطت رحالها بدار السلام بغداد، لم تتجاوز زيارتي لمطار بغداد الثلاثين دقيقة، حتى انطلقت الطائرة عائدة إلى عمان الحبيبة.

من خلال ثلاثين دقيقة شممت عبق التاريخ، وسرحت خيالي في صورالثقافة والحضارة، لقد كانت الثانية الأولى لوصولي بغداد كافية أن تحرك في قلبي كل مشاعر الحب والإخاء، وأن تذهب بعقلي بعيدا في أعماق التاريخ.

الخليفة العباسي المنصور يأمر ببناء عاصمته بغداد عام 762م، أي قبل 1256 سنة، إنها عاصمة قد ضربت جذورها في التاريخ، حتى صار مستحيلا على أي قوة مهما كانت أن تقوم بإزالتها، حتى لو كانت القوة المغولية لهولاكو خان الذي غزا بغداد 9/صفر/عام 656هـ، بعد حصار دام اثني عشر يوما، حيث سقطت بعدها، فقام الجيش الوحشي بتدميرها، وإبادة معظم أهلها. لقد سقطت بغداد لكنها ستقف مرة أخرى على قدميها، وهذا ما حصل، وعلامة ذلك أن يوم سقوط بغداد هو يوم ولادة السلطان عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه مؤسس الخلافة العثمانية، التي تفردت بحكم بغداد عام 1553م، وظلت تحت حكمهم أربعة قرون تقريبا.

ما أجمل نهر دجلة وهو يتعرج في مدينة بغداد ويقسمها إلى قسمين الكرخ والرصافة اللتين تصل الجسور بينهما، فبغداد واحدة موحدة، وستظل كذلك إن شاء الله تعالى.

بالكاظيمة يرقد إمامان من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، هما: الإمام موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد. أما موسى الكاظم فهو ابن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنهما، وما أدراك من موسى الكاظم هذا الذي قال فيه الإمام الذهبي: «الإِمَامُ, القُدْوَةُ السَّيِّدُ». ولقّب بالكاظم لأنه كان واسع الحلم يتجاوز عمن أساء له، وكان حليماً وكريماً، إذا بلغه عن رجل ما يؤذيه بعث إليه بمال. أما محمد الجواد، فهو محمد بن علي بن موسى الكاظم، كان أحد الموصوفين بالسخاء، فلذلك لقّب بالجواد.

فإذا انتقلنا إلى الأعظمية فسنقف أمام قطب الفقه الأكبر، ومنبعه الأفخم، الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وهو الذي قال فيه الشافعي: (الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة).

وفي باب الشيخ من جهة الرصافة يرقد سلطان الأولياء، سيدي عبد القادر الجيلاني، رحمه الله تعالى، صاحب الكرامات، وإليه تنسب الطريقة القادرية.

لا ننسى أنه في عهد هارون الرشيد قد تم بناء بيت الحكمة، وهي أول دار علمية في عهد الحضارة الإسلامية، حيث كانت تحوي الكثير من الكتب، وتتم فيها الترجمة والتجليد.

ومن مقبرة الشيخ معروف الكرخي، الولي الصالح، يمكن أن نسمع صوت أشعار أبي نواس وهو يقول:
عيون من لجين شاخصات بأبصار هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
كل هذا لاح ومرّ كلمح البصر، كأنه منام في اليقظة، إنها الحضارة والتراث، إنه العلم والشعر والأدب، إنها العلوم والفنون، إنها الأخلاق والقيم، إنها بغداد يا سادة.