facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




​أطفال سوريّون متسوّلون في شوارع بيروت


21-09-2018 06:11 AM


د. فردريك معتوق*

تَرافَق النزوح السكّانيّ الكثيف منذ السنة الأولى من الحرب الأهليّة السوريّة مع غياب خطّة توجيهيّة جادّة تستوعب مَفاعيل هذه المشكلة على غرار ما حصل في الأردن وتركيا. إذ تَرَك المسؤولون الحكوميّون الأمور على عشوائيّتها، مُتنازلين لبعض المنظّمات الدوليّة عن بعض مسؤوليّاتهم غير السياسيّة، فيما يشير الواقعُ اليوم إلى أنّ هذا التنازل قد جاء سياسيّاً بامتياز ولو بشكلٍ مموَّه.

في ظلّ هذا التسيّب العامّ، أطلّت مشكلات فرعيّة عديدة برأسها، من ضمنها الأكثر إيلاماً على المستوى الإنساني، أعني هنا تسوّل أطفال سوريّين دون العاشرة من العمر عند مُفترقات الشوارع الرئيسة وتقاطعاتها في العاصمة بيروت. وقد لاحظتُ خلال تنقّلاتي في المدينة على مدى السنوات الماضية ظاهرتَين اجتماعيّتَين اثنتَين في هذا الصدد، تتمثّل الأولى بتغييرٍ ملحوظ في استراتيجيّة التسوّل بعد سنتَين من انتشاره، وتتمثّل الثانية بتعامل المُواطنين اللبنانيّين مع تسوّل الأطفال السوريّين في عاصمة التنوّع في العالَم العربيّ المُعاصر.

عندما بدأ تدفُّق النازحين الهاربين من الحرب الأهليّة السوريّة – التي لا تزال السلطات السوريّة مصرّة على وصفها بالأزمة – انتشر التسوّل بشكله الأوّلي، أي على عاتق نساء سوريّات يحملن أطفالاً رضّع على ذراعهنّ، او بمجموعات صغيرة تتألّف كل واحدة منها من امرأتَين، تستجدي أصحاب السيّارات مع فيض من الدُّعاءات والتمنّيات الطيّبة.

لم يرتدِ هذا الأسلوب البسيط في التسوّل الطابع المِهني المُتفنِّن الذي اعتمده بؤساء فرنسا مطلع القرن التاسع عشر في العاصمة الفرنسيّة باريس، الذي يصفه لنا بشكلٍ رائع الأديب فيكتور هوغو في فصلٍ من كتابه البؤساء يحمل عنوان ميدان المُعجزات (La Cour des Miracles)، الكائن في أحد الأحياء الفقيرة من المدينة، حيث كانت تتكشّف حقيقة كلّ شخصيّة من هذه الشخصيّات. فعند عودته إلى حوشه الخاصّ للمبيت كان كلّ متسوّل من المتسوّلين نهاراً يميط اللّثام عن خدعته جلّابَة الرِّزق فيظهر على حقيقته ليلاً، أمام زملائه المتسوّلين الآخرين، من دون حاجة الى خجل مُصطنع، حيث إنّ الجميع كان يُمارس المهنة نفسها لكنْ بأسلوبه الخاصّ.

هنا، في إطارٍ من الحميميّة المهنيّة، كان الأعمى يعود مُبصراً، بعد خلع عصبته الرثّة عن عينَيه، وكان المتسوّل يمشي، بعد فكّ الرباطات عن ساقيه ورَمي العكّازات جانباً، وكان المجنون يعود إلى صوابه، بعد توقفّه عن أداء الحركات المريبة، إلى ما هنالك من حبل الخِدَع الطويل طول يَوم الجوع.

لم يبلغ تسوّل النازحين السوريّين هذا التفنّن القديم الذي بات اليوم يثير الابتسامة، غير أنّه لم يكُن في المقابل من دون تخطيط. فالرجال القابعون في المنازل كانوا يحثّون النساء في هذه الحالات على تحصيل لقمة العيش باللّجوء الى أبسط أنواع التسوّل، ألا وهو مدّ اليد والتفوّه بكلمات تُثير الشفقة. وقد نجح هذا الأسلوب خلال سنتَي 2011 و 2012 حيث كانت الأخبار الآتية من سوريا تُساعد على استنفار المشاعر الإنسانيّة.

لكن بعد ذلك، واعتباراً من سنة 2013، تبيَّن لأصحاب العلاقة الذكور، الكامنين في كواليس الظاهرة، أنّ المردود غدا يتضاءل شهراً بعد شهر، الأمر الذي أقلقهم. عندها، ونظراً لشحّ مَواردهم الماديّة، أَدخل استراتيجيّو التسوّل تعديلاً على مَواردهم البشريّة، فأمروا باستبدال المتسوّلات المسنّات بالبنات الصغار والأطفال المتسوّلين. فشاعَ على نطاقٍ واسع، ولكن بصمتٍ ومن دون طبل أو زمر، مشهدٌ جديد بات مألوفاً اليوم في شوارع بيروت، ولو أنّه أُصيب هو أيضاً بعد سنتين، بضمورٍ مُماثل لذلك الذي أصاب المشهد الأوّل.

لكنّ العقل التسوّلي المخطَّط فرغ من إيجاد استراتيجيّة جديدة، فبقيت الأمور على حالها واستقرَّت في مشهدٍ بائس مُتراجع شهراً بعد شهر. إلّا أنّنا لاحظنا خلال هذه السنوات كلّها سلسلة مواقف من هؤلاء المتسوّلين الصغار استوقفتنا بدلالاتها الإنسانيّة. فما كانت ردّة فعل السائقين تجاه هذه الظاهرة الجديدة؟

خمسة مواقف أساسيّة تلخِّص الموقف الاجتماعي العامّ من الأطفال السوريّين المتسوّلين كما شاهدتُها بأمّ العَين على مدى السنوات المُنصرِمة هي:

- الشبّاك الذي لا يفتح بتاتاً ويبقى مُغلقاً، وهو موقف الرفض، حيث إنّ صاحبه يدير وجهه باتّجاه الشبّاك الأمامي الآخر ويتجاهل عمداً الطفل السائل على شبّاكه الأيسر. غالباً ما يترافق هذا الموقف مع وجهٍ عبوس وجَبينٍ مقطّب يُحاول أن يعبِّر عن مُقاطعة إيمائيّة للآخر. ولا ينفع أمام هذا الموقف وقوف الطفل المتسوّل أمام الشبّاك او لمسه بأصابعه للزجاج أو نقره قليلاً. حتّى أنّه في بعض الأحيان يُستشَفّ من هذا الموقف موقفٌ سياسيٌّ، فيقع العتبُ كلّه على الجمّال الصغير بالنيابة عن الجمل الكبير الذي أرسله. وقد سمعتُ إحدى المرّات سائق سيّارة من أصحاب هذه الفصيلة من الشبّاك الذي كان باتّجاهي:"لوين لاحقينا هولي؟ يرجعوا على بلادهم!". من الأرجح أنّ الطفل لا يسمع الكلمات، لأنّ الشبّاك مُغلق لجهته، إلّا أنّه يفهم من النبرة الرفض القاطع فينتقل بسكوتٍ إلى السيّارة التالية.

- الشبّاك الذي يُفتح ثمّ يغلق مُتجاهلاً السؤال، وهو موقف السائق الذي لا يُمانع في فتْح شبّاكه ولكن من دون التفاعل مع صاحب/ة العلاقة. وقد دهشني في إحدى المرّات عند تقاطع عسل يزبك في الجديدة موقفَ سيّدة ثريّة في رانج أبيض كبير يحمل لوحة سوريّة؛ إذ عندما توقّفت سيّارتها عند الإشارة الحمراء هَرعَت إليها طفلةٌ سوريّة صغيرة مستبشرة الخير. فنقرت من تحت على شبّاك السائقة الذي فتحته وبدأت أسئلة وأجوبة بين الطفلة السوريّة البائسة والسيّدة السوريّة الغنيّة انتهت برفْع شبّاك الرانج وإقلاع السيّارة من دون أيّ مُبادَرة رحمة على الطفلة التي عادت إلى الرصيف خائبة ومنحنية الرأس.

- الشبّاك الذي يُفتح للثرثرة، وهو موقف يكثر بين السائقين الشباب الذين ينتهزون فرصة التوقّف عند الإشارة الضوئيّة لتبادل حديثٍ فارغ مع الطفل المتسوّل. فتقتصر الاسئلة على :" من أين انت؟... شو اسمك؟ ... قديش بتطلّعي بالنهار؟" وغالباً ما يدفع موقف المهرّجين هذا الأطفالَ المتسوّلين إلى الابتعاد بسرعة، لعِلمهم المُسبق على ما يبدو بأن لا نفع من الردّ على الأسئلة لكون السائل يسعى إلى تقطيع الوقت ليس إلّا. علاوة على أنّ خبرة الأطفال الصغيرة قد علّمتهم أن يتجاوزوا عموماً السيّارات التي يقودها الذين يبدون أنّهم، من بُعد، شبابٌ ثرثارون.

- الشبّاك الذي يُفتح ويقدَّم بعض المال ثمّ يُغلق، وهو الموقف الأكثر انتشاراً بعد الموقف الأوّل. ويبدو لي أنّه الأكثر شيوعاً لأنّه ينبع عموماً من أشخاصٍ من الطبقات الوسطى اللّبنانيّة. فأبناء هذه الطبقات وبناتها قد تربّوا تربيةً بيتيّة ومدرسيّة سويّة ولا يقبلون على أنفسهم النَّظر إلى البؤس وعدم مساعدة صاحبه مهما كانت تحفّظاتهم وآراؤهم. يتصرّفون من منطلقٍ إنساني ليس إلّا.

أمّا لماذا يُفتح الشبّاك للمُساعدة ثمّ يُغلق؟ أهو للتعبير عن موقفٍ أم للتعبير عن حالةٍ ما؟ في الواقع التعبير عن الموقف حصل عندما قدّم السائق/ة بعض المال للطفل المتسوّل. أمّا إغلاق الشبّاك بعدها وعدم الرّغبة في فتْح حديثٍ فيعود تحديداً إلى أنّ أبناء الطبقات الوسطى وبناتها، الذين يعيشون في العاصمة ، هُم أناس مهمومون. يحملون في رأسهم همّ قسط السيّارة، وهمّ قسط البيت، وهمّ أعباء العمل، وهموم القسط الأوّل والثاني للكهرباء، وكذلك للماء، علاوة على مشكلة النفايات.

لذلك ترى هذه الفئة من السائقين، ذات القلب النّابض بالانسانيّة، مغلوبة على أمرها ومهمومة. تقوم بما ينبغي أن تقوم به، لكنّها ترغب في أن تُترَك لحالِها التي ترى أنّها بائسة إلى حدٍّ ما مثل حال الطفلة المتسوّلة الواقفة أمام الشبّاك. فيحنّ قلب السائق/ة هنا في تعبيرٍ تضامُني معكوس وغير مُعلَن: من مقهورٍ إلى مقهور آخر. لذلك لا حاجة للكلام.

- الشباك الذي يُفتح ويقدِّم قَوس قزح، هو شبّاك هذه السائقة اللّبنانيّة الشابّة السمراء، صاحبة سيّارة Picanto حمراء صغيرة اقتربت منها فتاة متسوّلة سوريّة صغيرة علّها تحصل من صاحبتها على بعضٍ من نقودٍ معدنيّة عند إشارة تقاطع جامعة الألبا ALBA للهندسة حيث التوقّف يكون طويلاً نسبيّاً.

لكوني كنتُ خلف هذه السيّارة تماماً، تمكنّت من مُشاهدَة ما جرى. فتَحت الشابّة الشبّاك مُبتسمة للطفلة وطرحت عليها سؤالاً، ثمّ سؤالاً آخر، أجابت عليهما المتسوّلة الصغيرة بتهذيبٍ وحذر، ثمّ عند السؤال الثالث راحت الطفلة السوريّة تبتسم وتشرح بفمها ويديها شيئاً، معبّرة عن حماسة غير مصطنعة. عندها مدّت السائقة ذراعها من الشباك وأعطت المتسوّلة الشقراء الصغيرة علبة أقلام تلوين، فطارت الأخيرة فرحاً. وبدأت تتكلّم وتشرح للسائقة أشياء تصف على ما يبدو اهتمامها بالرسم والتلوين؛ وكانت السائقة الشابّة في هذه الأثناء قد قدَّمت لها دفترَ تلوينٍ صغيراً.

ارتفعت وتيرة الكلام عند الطفلة كما منسوب الحركات وقالت أشياءَ أخرى للسائقة، فأعطتها هذه الأخيرة علبة تلوين ثانية فضلاً عن دفتر تلوين صغير. واخضرَّ لونُ الإشارة الضوئيّة وارتفعت فوراً الزمامير. لكنّ الطفلة المتسوّلة كانت وكأنّها التقطَت السماء بيدها، فهرعت ضاحكةً غانمةً باتّجاه رأس الشارع من خلفي حيث تذكّرت أنّي شاهدتُ فتاةً متسوّلة أخرى يبدو أنّها كانت أختها الأكبر.

لن أنسى بريق عيون هذه الطفلة التي أدخلَت علبةُ أقلام التلوين ودفتر الرسم الصغير حلماً مشرقاً إلى قلبها الصغير.

كان قلب السائقة الشابّة السمراء كبيراً وقد فتح في قلب الطفلة المتسوّلة شبّاكاً من الأمل، ورَسَم في عيونها قَوس قزحٍ من فَرَح.

أوَلَا يقول الشاعر :" ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأمل"؟

*كاتب وأكاديميّ لبناني





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :