في الحادي والعشرين من كانون أول من كل عام، يحدث الإنقلاب الشتوي في نسبة كبيرة من أجزاء الكرة الأرضية.

وهذا الانقلاب له خصوصية مميزة في عنجرة. فهو الموعد الرسمي لعنجرة مع المربعانية. والمربعانية هذه حوار شاق بين سماء عنجرة وأرضها في ظل أجواء باردة جدا. حوار قد يثمر عن أمطار غزيرة أو قليلة، أو ثلوج كثيفة أو خفيفة، أو صقيع قارص. ولربما لا يثمر عن شيء غير رياح شديدة البرودة، تلسع رأسك وأذنيك إذا لم تكسوهم بشماغ أو لفحات أو قبعات صنعت خصيصا لمربعانية عنجرة.

المربعانية هذه مناجاة المزارع العنجراوي لربه ودعواته العميقة له آناء الليل وأطراف النهار بأن يمسح بالمطر جبين عنجرة، وأن يدهن بالثلج خدود عنجرة، لعل وعسى تنبجس ينابيع "عين عنجرة" و"عين الصالوص" و"عين أم جلود" و"عين أبو جابر" وغيرها من عيون وينابيع تكتنزها عنجرة التي أشتق إسمها من كلمتي "عين" و "جارية" لكثرة العيون التي كانت تزدان بها قديما مناطق مختلفة من عنجرة، حتى إذا إنفجرت تلكم الينابيع غمرت السكينة روح العنجراوي واطمأن قلبه أن أرضه ارتوت من المياه، وأن الشجر سيحمل ما يكفيه من الثمر.

وتكاد المربعانية أن تكون بالنسبة لأهالي عنجرة مهرجانا خاصا بمأكولات وحلويات معينة مثل الكستناء المشوية على مختلف أنواع المدافئ، والراحة والبسكويت، والسحلب، والخبيصة، والسليقة، والزبيب، ومناقيش الزعتر والسبانخ والحميض المجهزة من على أسطح مدافئ الفوجيكا بمختلف أنواعها، والعسل أو دبس الرمان بالطحينية، وغيرها من المأكولات والحلويات.

المربعانية في عنجرة حظر تجول في الطرقات يفرضه البرد القارص منذ غروب الشمس حتى صباح اليوم التالي.

في ظل هذا الحظر الصارم تجد العنجراويين يلتئمون في بيوتهم لعقد منتديات شعبية حول أحداث الساعة مما يجري هنا وهناك على مختلف الأصعدة والمجالات. وفي أحيان أخرى، تمسي المنتديات الشعبية حلقات رياضية لممارسة مختلف ألعاب الورق الشعبية مثل "الباصرة" و"الهاند" و"الطرنيب" و"التريكس"، وألعاب شعبية أخرى كطاولة الزهر، وقلة قليلة من هذه المنتديات تشهد مباراة شطرنج.

وهنا تتفنن العنجراوية في إعداد المشروبات الساخنة مثل الشاي الأسود والقهوة غالبا وشاي الأعشاب الطبية عادة كالميرمية والمليسة والنعناع والزعتر وما يرافق الشاي والقهوة من حلويات مثل الكعك المحلي والهريسه بالسمن البلدي والبسبوسة.

تلي المربعانية في عنجرة الخماسينية التي تفتتح تقويمها بأيام "سعد الذابح" التي تمتاز بالحورة الشديدة.

والحورة (بفتح الحاء والواو) هي الاسم الشعبي الدارج في عنجرة للصقيع. كيف لا وهي التعبير الأمثل عن رجفة الحجر، وتجلد ذرات التراب على وجه الأرض، وانكماش ورق شجر الزيتون والسرو والصنوبر وغيرها من أشجار دائمة الخضرة تنتشر في وديان وجبال عنجرة، وذلك من شدة البرد التي دفعت سعدا لذبح ناقته التي كانت كل ما يملك أثناء ترحاله وتجواله وذلك لكي يحتمي بأحشاء ناقته من صفعات البرد وقرصاته لجلدته ودغدغته لعظامه.

والحورة في عنجرة غليان الماء المشبع بالقرفة والبابونج كل على حدة. ذلك أن القرفة ينبوع يرتشف منه العنجراوي دفء كيانه. والبابونج درع يقي به العنجراوي صدره من نزلات برد الحورة.

الحورة في عنجرة ميعاد تفريغ الحانوب من مربى التين والتفاح والدراق والخوخ والبرقوق والمشمش، ودبس الرمان، وعسل أزهار أشجار عنجرة.

وبعد ايام سعد الذابح تبدأ في عنجرة أيام "سعد إبلع" التي يفترض فيها أن الأرض ستبتلع كل قطرة مطر تهطل، ثم أيام سعد السعود التي يتغنى فيها العنجراوي بالمثل الشعبي القائل: "وبسعد السعود بتدور المي بالعود"، ثم ايام سعد الخبايا التي تختتمها الأرض بدورانها حول نفسها بالاعتدال الربيعي.

ولفصل الربيع على هامش عنجرة مقال آخر.