facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




روايةُ (حمَّالة القمحِ) : سيرةُ عائلةٍ بلغةٍ وصفيةٍ سردية


أ.د. خليل الرفوع
16-06-2019 09:10 AM

حمالةُ القمحِ روايةٌ صدرت حديثًا للكاتب الدكتور أحمد عطية السعودي ، وهي ضمن سلسة أدبية شرع الكاتبُ في إصدارها منذ سنوات ، كان منها أحماضٌ أدبيةٌ وليالي عابر سبيل ، ولعلَّ أهمَّ ما يميزُ لغةَ الكاتب في جميع تآليفه تلك اللغةُ الفصيحةُ المشحونةُ بجمالياتٍ بيانيةٍ تنتمي في سرديتها إلى لغة المدرسة البيانية التي أسسها ابن المقفع ومن بعدهِ الجاحظ وأبو العلاء المعري في رسائله ، خاصةً رسالةَ الغفران ، وكان من مجدديها في بدايات القرن العشرين الرافعي وطه حسين ، إذ تستندُ في لفظها وإيحائها وتصويرها وإيقاعها إلى التراث الشعري و القرآن الكريم و النثر العربي القديم خاصةً الرسائل الأدبية والمقامات بضروبهما وفنونهما، فالكاتب مندغم نفسيا وبيانيا وفكريا وأسلوبيا بذلك النمط اللغوي ذي المستوى الجمالي الراقي الذي وسمَ العربيةَ بالديمومة المتدفقة والحياة المتجددةِ ، فاللغة مرتكز ينبئ عن ثقافة الكاتب وانتمائه ، وبها ومنها يتشكل الأسلوب .

أحداثُ الرواية تنداحُ عبرَ تشابكات تأْريخية يربطها خيطٌ زمنيٌّ متسلسلٌ تصاعديًا بشكل منطقي ابتداءً من الجَدِّ الأكبر سلمان وانتهاءً بحسام أصغر أفراد العائلة الممتدة عبر خمسة أجيالٍ ؛ إذ تنتهي الرواية في نقطة زمنية حاسمة هي موت الأم (عائشة)، وفي هذه الأسرة مناقلات قِيَمِيَّةٌ أخلاقية فكرية اجتماعية تكشف عن توريثِ الطبع المحافظِ والطَّيِّبِ من القول والفعل والخُلُقِ ، أحداث الرواية منقولةٌ بلغة تصويرية تخيُّلةٍ من عالم واقعي حقيقي شهدتْهُ قرية بصيرا في جنوب الأردن في منتصف القرن التاسعَ عشرَ وصولا إلى بدايات القرن الحادي والعشرين ، وتتسلسلُ الأحداثُ من لحظة بدْء الرواية بوصف القرية التي تمتاز بتضاريسها المتباينة سهولا وجبالا وأوديةً وعيونَ ماءٍ وبيوتَ شعر ودورا طينيةً حجريةً ثم بيوتا إسمنتيةً حديثة ، ومن بدايات الرواية يُلَخِّصُ الجدُّ الأكبر سلمان خبرتَه لتكونَ حكمةً دالَّةَ لحفيده قاسم ولبنيهِ من بعده :" يا قاسمُ قد بلغتَ اليومَ من العمر عِتيّا ، وإني لفي إدبارٍ عن الحياة ، وإنك لفي إقبال ، وكأني بكَ وقد أصبحتَ قاضيا وجلست بين الناس وقد علتْكَ هيبةٌ ، ونالتكَ عِزة ، إني أوصيك : أن تصدق إذا قلت وأن تعدِلَ إذا حكمتَ ، وأن تحمل الأمانةَ ، أمانةَ دينِكَ وبلدك وأمتك " ص7. ويتولى قاسم القضاء ويحكم بالعدل بين أهل القرية ويوصي ابنَه ضيفَ الله بمثلما أَوصى به جدُّه ، وبعد ضيف الله يأتي ابنُه عطيةُ الذي يُعَدُّ مع زوجهِ عائشةَ وابنهما الأستاذ أحمد أبطالَ الرواية ، ومنهم وبهم تتشابك الأحداث وتتجاذب الشخصيات الهامشية في بناء الرواية وسيرورتها .

حمَّالةُ القمحِ عنوانٌ هو مفتتحُ الرواية ومفتاحُها وملخَّصُها ، وفيه دلالات دينية اجتماعية عَقَدِيَّةٌ ميتافيزقية ،إذ يذكرُنا بحمَّالة الحطب المذكورة في سورة المَسَدِّ ، إنها المبالغة في حمل ما ستُعَذَّبُ به أروى بنت حرب بن أمية أم جميل - زوجُ أبي لهبٍ( واللهب توهج النار زُرقَةً بلا دُخان) - في نارها الخاصة المُتَّقدة في جهنم ، ففي النارين سيكون حرقُها واحتراقها ، لكنَّ ثمة خصوصيةً في تحريقها بما حملته في الدنيا من ضغائنَ وأعمالِ سَوْءٍ ؛ فهي الحاطبةُ والحاملةُ والمَشْوِيَّةُ بما جمَّعت من آثام وأعواد وأشواك ، تلك مفارقةٌ بين الحمّالتين واقعيًّا وفنيًّا ، وحمالةُ القمح حسبَ سير أحداثِ الرواية زوجٌ وفيَّةٌ وأمٌّ صالحةٌ ، اسمُها : عائشة ( من العيش والإحياء)، وكنيتُها أمُّ سامي ( من السمو الأخلاقي ) ، وهي زوجُ عطية ( الذي كان لأمِّهِ ولها ولأبنائهما عطيةً من الله) وهما اللذانِ يحملانِ رسالةَ الحياة المغموسة بالنبل والإيثار والمثاليات ، قد أنجبتَ ثلاثة عشر من البنينَ والبناتِ ، مات منهم أربعةٌ صغارًا ، لكنها لم تحْطِبْ شقاءَها الدنيوي لتُحْرَقَ به في آخرتها ، بل حصدت ثلاث عشرة سنبلة (هم أبناؤها) وفي كل سنبلة مائة حبة ، وظلوا محمولين في فؤادها حتى لحظة موتها، فقد بذرتهم في القرية حباتٍ قليلةً لكنهم أضحوا يتكاثرون علما وأخلاقا ومحبةً في قلوب أهل قريتهم وكذلك زُرِعُوا فيها كما يُزْرَعُ في الأرضِ المُخْصِبَةِ قمْحُهَا فأُنبتوا نباتًا حسنًا .

الكاتب الراوي قارئ للتراث الأدبي الحكائي والشعري ، صاحب رؤية ثاقبة ناقدةٍ ساخرة للواقع المحلي والعربي والعالمي ، والبناءُ الزمني متسلسلٌ توقَّفَ عند طفولة أحمد الأستاذ الراوي والسارد البطل ( أقصد البطولة الثقافية ) المؤثر في العائلة والبيئة المحيطة ، مما شكل إيقاعًا متوافقا مع شخصيات الرواية ، وظهرت لغته السردية التي جعلت من الرواية نصا أدبيا تطغى فيه اللغة الوصفية التراثية المنطقية على تفاصيل البِنَى الفكرية لجميع الشخصيات ؛ فالجميع يتحدث اللغةَ ذاتها ، سواءٌ مَنْ كان أميًّا أمَّنْ كانَ مثقفا ؛ فالكاتب ينوب عن الشخصيات في البناء السردي الاستذكاري أو الاسترجاعي اللذين يتضمنان سردياتٍ استشرافيةً فيها خطاب توجيهيٌ مباشر مبين بما في ذلك آليات الحوار والتداعي الوصفي المونولوج والديالوج ، فالرواية في مجملها نصٌّ مسرود يتضمن قصًّا داخليًّا أخلاقيا متنوعا . وفي الرواية خلخلات قصصية جانبية ، لا يؤثر حذفُها أو استبعادُهَا في سير الرؤية العامة وقد جاءت لملْءِ فراغات هامشية ، كقصة الزوجين حنيش والرقطاء، الممثلينِ للأُسَرِ التي مُلئتْ قلوبُها حقدًا وحسدًا ، وهي متضادةٌ مع أسرة عطية الممثلةِ للصبر والإيثار، وهناك أيضا قصة رَيَّان ومحبوبته وِداد ، وهما رمزان رومنسيان للحب العذري في بيئة محافظة لا يَرى بعضُ أهلها المرأةَ إلا مأمورةً مطيعةً للنظام القروي المتزمت ، لذا ينتهي حبهما إلى موت فجائعي فجأةً ، وهناك قصة العائلة الرملية اللاجئة التي سكنت البلدة قادمة من فلسطين وفجأة ينهدم على الزوجين الكهفُ الذي آواهما ، فيموتُ الأبوانِ صابرٌ وحليمةُ وينجو طفلُهما ساريةُ لتأخذَه عالمة آثار إلى إنجلترا كانت تُنَقِّبُ حينئذٍ عن الآثارِ في البلدة ليكبرَ هناك ويعود زائرا القريةَ في نهاية الرواية بعد أن أصبح عالما مشهورا ونائبا في البرلمان البريطاني ، يأتي مع زوجه (جاين) وولديهما (هارلي وسالي) وهو حضور لفلسطين في قلوب الأردنيين ، وهو كذلك وفاءٌ للقريةِ وإظهارٌ لسحرِ طبيعتها ، وفي الزيارة تتجلى الفروق الحضارية بين الشرق والغرب ، فهذه القصص الأربعُ إذا ما حُذِفَتْ لا تؤثر في سير تسلسل أحداث الرواية ، ولعلها ساعدت في بُطْءِ حركية البؤر المركزية وهدوء تتابع أحداثِهَا ؛ كونها مؤثراتٍ برَّانيةً أسهمت في تخلخل التسلسل الممتد لسير الأحداث الهادئة البطيئة المتماهية مع اللغة الوصفية السجعية أصلا ، ولم تسهم في إنضاج الإشارات الانعطافية الرئيسية المستمدة من الذاكرة الشعبية للكاتب وللقرية وهي التي تشدُّ ذهنَ المتلقي ، ومنها : تولِّي قاسم القضاء ، ومحاولةُ قتلِ عطيةَ الذي أصيب بطلق ناري شقَّ بطنَه وأخرج ما فيهِ من أمعاء لينقلَ محمولا على بغلٍ إلى مشفى الكرك ، ثم تعود إليه الحياةُ بعد موت محقق ، ومنها كذلك دور الطفلِ الابنِ أحمد الطليعي في عائلته من خلال قراءة النصوص القصصية التراثية الهادفةِ التي كان لها الأثر في مضاعفة السكينة وتخفيف التوتر والقلق في النفوس وتزويدها بشحنات وعْظيَّةٍ مؤثرة ، ودور الجدة أم عطية (اِجميعة) في جَمْعِ العائلة وصيرورتها باتزان وتماسك .

فالكاتبُ الراوي هو الذي يسردُ الأحداث ويصفُ الأماكنَ ويقدمُ الشخصيات ويعبرُ عن مقاصدها وهمومها ومشاعرها وآمالها ، وأكثرُهُم يعيشون معه ، فينقل أفكارهم وعواطفهم انطلاقا من مقولة : إن الكتابة استكشافٌ للغة ، وهي التي تحدد قيمةَ العمل الأدبي ومآربَ الكاتب الذي كان في رواية حمالة القمح متمكِّنًا من التحكم في نسج صناعة الكلام وتقديمه بمستويات رفيعة ، وذلك بطغيان اللغة الشعرية على جميع الألسنة في تفكيرها وحوارها ، والأَوْلَى أن تتعددَ مستوياتُ الخطاب في العمل القصصي تبعًا لطبيعة الشخصيات ومُثَاقفاتها ، لكنَّ إيمانَ الكاتب بلغته وتمكنه من سردها فصيحةً رصينةً تتسم بالعفوية والتلقائية أحكمَ بناءَ الرواية ودلالاتِهَا الفنية ؛ فلم تكنْ مُرْبِكَةً أو مُشَـتِّـتَةً لذهن القارئ ؛ فهي تسير على خيط رفيع من النحو والبلاغة المعروفين ، تحمل تضميناتٍ قرآنيةً واقتباساتٍ شعريةً ونصوصًا تراثيةً مُؤَدْلَجَةً ، وفيها عباراتٌ شعبية وأغانٍ أردنية تتناسب والحدثَ لتدعمَ الخط التاريخي التَّرَاتُبِي للرواية ، وقد برع الكاتب في جعلِ اللغة محركا للأحداثِ لأنها ببساطةٍ مشحونةٌ بمستويات دلالية صوتية جمالية مما يجعلنا نقول : إن الكاتب في الرواية لاعبٌ متحكم في سير الأحداث لِـتَـنَوّعِ مصادره المعرفية ولتمكنه من اللغة مبنًى ومعنًى وغايةً على الرغم مما شابَها من وصف إنشائي قد يتناسب مع سحر الأمكنة وبساطة الشخصيات عمومًا ، لقد جاءت الرواية علامةً تؤكد قيمة اللغة الفصيحة في الأعمال الأدبية حينما تكون طبعًا بلا تكلف أو تصنع ، فتزيدَ من جمالية السرد المتواشجة مع التوصيف الانطباعي والتقاط الإشارات المفصلية وتسجيلها بكل ما فيها من غرائبية وواقعية ؛ فالرواية ليست عالما واقعيا مُعَايَنًا بل هي عالم افتراضي متخيَّلٌ يمكنُ تصورُه أو حدوثهُ لكنَّ ساعةَ قراءته يكونُ عالمًا فنيًّا لَمَّا يُمَوْقَعْ بعدُ ، ولذاكرة المتلقي أن تشاركَ في إحيائه بالنقد وتقتنصَ منه ضالتها ، أو ربما تدعَه إن كان ثقيلا مُفَكَّكًا غيرَ مقنع ؛ فهو لم يُكْتَبْ إلا له ، وأختمُ الحديثَ بمقطع حركي وصفي سردي سجْعِيٍّ يكشف أهمية اللغة في تنامي الأحداث وتشابكها ، " هناك دنيا القرية ، حين يرتفع الضحى ؛ فتكْثُرُ الخطى ، وترتفع الأصواتُ وتختلط : دويُّ مطْحَنَةِ محيي الدين ، جَلَبةُ التجار في تنزيل الصناديق ، أحاديثُ الفلاحين والبدو ، نهيقُ حميرِ الطحانينَ ، زعيقُ أولادٍ يركلون كراتٍ ملفوفةً من الخِرَقِ ، أصواتُ نساء يقفْنَ فوقَ سطوحِ الدور ينشرْنَ أغطيةً وفرشًا ويتبادلن تحيةَ الصباح..." ، ص83.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :