facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




واشتعلَ الرأسُ شيبًا


أ.د. خليل الرفوع
16-12-2019 12:54 PM

من جماليات فن القول العربي(٢)
     
من الآيات القرآنية التي اكتسبتْ جمالا فكريًّا ولفظيا قولُهُ تعالى " ربِّ إنِّي وهَنَ العظمُ منِّي واشتعلَ الرأسُ شيبًا ولم أكنْ بدعائكَ ربي شَقيًّا "مريم(4)، وممنْ وقف عند هذه الآية اثنان من علماء البيان :أحدهما البلاغي عبدالقاهر الجرجاني (ت 1078م ) الذي كُرِّرَ كلامُه عند البلاغيين والمفسرين، والآخر الأديب الناقد سيد قطب (ت 1966م)، وهما من أكثر العلماء إحساسًا بالنص الأدبي تذوقا وفهما وتعبيرا ، وملخصُ رأي الجرجاني أن : اشتعلَ قد استعير للشيب ليفيد اللمعانَ والشَّمول في الرأس ، ولفهم قيمة الاستعارة يمكن المقارنةُ من خلال التفريق بين العبارتين الآتيتينِ : اشتعلَ البيتُ نارا، واشتعلتِ النار في البيت، فالفرق بينهما كبير متنافرٌ، ففي الأولى : إفادة بأن كلَّ شيء قد اشتعل في البيت ، وأما الثانية فتعني أن نارا قد اشتعلت لكن البيت لم يشتعلْ ، ونظير هذه الآية قوله تعالى " وفجَّرْنا الأرضَ عيونا"القمر12، وقد أفادت أن الأرض كلها صارت عيونًا ، وليس أن عيون الأرض تفجرت وحسب ، فجمال الآيتين عند الجرجاني كامنٌ في نظم الكلمات وما فيهما من إعجاز انزياحي في الألفاظ .
        
وأما سيد قطب فيرى أن الجمال في هذه الحركة التخييليةِ السريعةِ التي يصورها التعبير في لحظة ، فهي حركة تلمس الحسَّ وتثير الجمال وتشرك النظر والمخيلة في تذوق الجمال ، فالحركة ممنوحة للشيب لكنها ليست له في الحقيقة ،فقد نظر سيد قطب إلى أثرها في المتلقي وليس إلى تشابكها ألفاظا ومعانيَ وسياقًا.
    
إن جمالية الآية تتأتى من خلال سياق المعنى والنظم معًا ، فالحالة التي يعيشها زكريا عليه السلام توحي بأنه قد بلغ من الكِبَرِ مبلغًا لا يتحققُ معه استطاعةُ الإنجاب ، إنه طور الضعف والشيب ، فقد دعا ربَّه دُعاءً خَفِيًّا كيلا يسمعَه بنو إسرائيل فيحسبوه قد أصبته لوثة الكِبَرِ بخَرَفِها ، إنها لحظة الاستحالة الواقعية في الإنجاب ، وآياتُ ذلك :أن الوهن قد أصاب عظامه فأضحت عظما واحدًا هشاشةً وضعفًا ، وقد كان ذلك أمارةً داخلية أحسَّها هو وعاشها في أُخْرَة من عمره ، ولا يخفى على كل ذي بصيرة أنَّ من العظم الصُلبَ والترائبَ التي يخرج منهما الماءُ الدافق لخلق الإنسان ، وهو ماءُ التوالد والحياة ، والثانية :أن زوج زكريا كانت امرأةً عاقرًا لا تلد ، أكانت نَصَفًا أم عجوزا ، وهذه الحالة يعرفها كلا الزوجين ومعهما بنو إسرائيل الذين كانوا يرقبونهما شماتةً فيهما ، وكُرْها في نبوة زكريا وإلا لَمَا دعا ربَّه  تضرُّعًا وخوفا من انقطاع ميراث النبوة في آل يعقوب ، النبيُ الجدُّ ، ولقد آمن زكريا بحتمية الاستجابة بعد أن رأى وسمع أختَ زوجه مريمَ البتول في المعبد يأتيها رزقها كل حين بإذن ربها، لتقول له : هو من عند الله ، لقد تنبَّه زكريا إلى أهمية الدعاء ، فأغرته حالة مريم بأن النبوة مظهر بشري لا يُستغنى فيه عن إظهار الضعف والحاجة . فحينئذ دعا زكريا ربه دعاء الموقن باستجابة الله .
         
لقد قلنا من قبلُ أن وَهَنًا في العظم رافقه عُقْرُ زوجه  ، وقلنا إن وهن العظم إحساس حقيقي داخلي أحسه زكريا قد لا يحسُّه مَنْ يراه مانعا من الإنجاب ، بيد أن اشتعال الرأس شيبًا هو الدليل الملموس مشاهدَةً من الناس على استحالة الإنجاب ، نعم ، إن الشيب كما ذكر الجرجاني يفيد العموم والشمول ، وكما ذكر سيد قطب يفيد جمالية التخيل في لحظة سريعة ، لكنَّ ثمةَ استغراقًا كاملا في الشيخوخة والضعف وإن شئتَ فقلِ العجز المبين ، وآية ذلك : أن الاشتعال لم يكن في عظام الرأس المُسمَّاة جُمجمةً ، بل كان في الرأس كله، أو في مكوناته ، فروةً ووجهًا بما فيه من منابت الشعر : كالحاجبينِ والعينين والأذنين والمنخرين والخدين ، ففي رأس زكريا كانت كل هذه الأعضاء قد اشتعلت شيبا، والاشتعال هنا لفظ مقتنصٌ من حركية النار التي تأكل كلَّ شيء لتحوِّلَه رمادا ، أو لنقل إنها تحيلُ الحياةَ فناءً ، والصورة بهذا تتظافر مؤكدةً ضعفا جسديًّا إن لم يكن ميْتًا فهو معطلٌ ساكنٌ ، فقد عمَّ الشيبُ شعرَه وكساه بياضا فاقعًا ، والسؤال المعروفُ جوابُه : أإذا رأينا رجلا قد ابيضَّ شعرُ حاجبيه وأذنيه وأنفه ووجهه أيكون قادرا على الإنجاب وقد عقمتْ زوجُه!؟ فليس المقصودُ بالاشتعال شعرَ فروة الرأس وحسب ؛ لأن هناك مَنْ قد اشتعل رأسُه ( أقصد فروة رأسه) وهو في ميعةِ الفتوة  لمَّا تصبْه الشيخوخةُ بوهنها ،فلا يُحْكَمُ عليه بالعقم ظاهريًّا.
       
ولقد كانت البِشارةُ بحجم الدعاء ، نبشرك بغلام اسمه يحيي ولمَّا يولدْ بعدُ ، تلكمُ آية اشتعال الشيب في رأس زكريا وقد عبر عنها القرآن الكريم بتصوير بياني يكشف معانة الأنبياء في الدعوة وقد أحيطوا بأقوام هم لنبوتهم كارهون ، والحق أن زكريا لم يعرفِ العربية ولم يتكلم بها ، لكن ألفاظ العربية نقلت حالتَه الفكرية والنفسيةَ والسلوكية والخطابية ، وحينما تنزَّلَ القرآن بهذه الآية وبغيرها دُهِشَ العربُ من أسلوب لغوي بياني لم يسمعوه من قبلُ وإن دارَ شعراؤهم قريبًا من سَنَنِهِ تعبيرًا وتجويدًا وتصويرًا، ففكرة اشتعال الشيب في الرأس قد نُشِرتْ وأنشدتْ من قبلُ على لسان الشاعرعلقمة بن عَبَدة التميمي المعروف بعلقمة الفحل في قصيدة مشهورة لتعبرَ عن حالة الضعف وانفضاض النساء عمَّنْ شابتْ رؤوسُهم ، لكنها في القرآن أكثر تذوقًا ودلالة وجمالا :

فإن تســـألونِي بالنـــساءِ فإننـــي           خبـــيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ   

إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه      فليسَ لهُ في وُدِّهِنَّ نصيبُ





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :