facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




في وداع رؤوف أبو جابر


إبراهيم السواعير
03-03-2020 08:36 PM

قبل سنتين، ظلّ الرجل يملي عليّ إملاء المعلّم للتلميذ "استوى العدس"؛ وكلما فررت من عبارته هذه إلى أفقٍ آخر، أعادني إليها الأبُ والمؤرِّخُ، والإنسانُ الشرقيُّ، حارسُ كنيسة الأرثوذكس، والعين المفتوحة عل فلسطين والقدس، عاشقُ نهر الأردن، الدكتور رؤوف سعد أبو جابر؛ فما بين الخمسة وعشرين وتسعمئةٍ وألف والألفين وعشرين ستٌّ وتسعون سنة هي بعض عطاءٍ من ذاكرة "أبو زياد" المتوقّدة، التي لم تطفئها إلا إرادة الله، بعد أن "استوى العدس" فعلاً، وقدّم ما لا تستطيعه مؤسساتٌ بأكملها، وهو ينافح ويبحث ويردّ على النوايا والطوايا ويؤلف بلغة الآخر ما يدحض به المغلوط من الجغرافيا والتاريخ، ويكفي أنّه كان من أشدّ المحبين للعُمَر الخليفة العادل في تعامله الأنموذج مع أهل إيلياء في أمان أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم.. لا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحدٌ منهم.. وكم كنتُ أستمتع وهو يردد جذلاً رائعة الشاعر رشيد سليم الخوري، يوم قال:

"يا قوُم، هذا مسيحيٌّ يُذكّرُكمْ

لا يُنهض الشرقَ إلا حبّنا الأخوي

فإن ذكرتم رسولَ الله تَكرمةً

فبلّغوه سلام الشاعر القروي".

وإنّها المرّة الأولى التي يبلغني فيها خبراً عاجلاً صديقٌ غيرُ أبي زياد؛ فلم تكن من صفقة بيوعٍ مريبة إلا ونبّهني إلى خطرها"رؤوفٌ"، مثلما لم يتحرر كتابٌ من نار المطابع إلا وكان يبترد بين يدي "رؤوفٍ" فيهديني إيّاه،.. بل لقد كان أوّل الفرحين والمباركين وبالخطّ العريض في الصحف، حين يتسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني جائزةً عالميّةً؛ إذ كان يفاخر بخطابات جلالته وبُعد نظره وسموّ أخلاقه، كما لم يكن يسمع بتصريح بطريرك إلا وطار به إليّ علّني أحقق به نفعاً أو سبقاً يهم الناس والمسؤول في عالم الصحافة والإعلام،...

واليوم!.. يبلغني أحدهم أنّ "أبو جابر"، وفي خبرٍ عاجلٍ، قد ودّع الحياة، فيا لخسارتنا بالكبار!.. الكبار الذين بدأت عدوى الرحيل بينهم تتواصل، وقد كانوا بالأمس بين ظهرانينا؛ يعضّون النواجذ، ويدفعون عن بلادنا الشرور، وربما لا نخلص كثيراً في السير على هداهم؛ لاعتقاد الأبناء دائماً أنّ الآباء لا يذهبون، أو هم ما يزالون يعيشون أبد الدهر!

كان صاحبي "أبو جابر" حين أزوره في مكتبه الذي يكاد يكون في السّماء، في "عمارة التأمين" يجنّد موظفين لكي يحملوني إليه على أكفّ الراحة، فله مصعدٌ خاص، وله طقوسٌ في الحديث إلى المثقفين والشعراء والكتّاب وأهل الفكر؛ إذ كان يؤثرهم في أحيان كثيرة على رجال الأعمال، وهو الاقتصاديّ الكبير وصاحب الاسم اللامع في عالم "التأمين"، وكثيراً ما كنت أمنع نفسي من أن أنفجر بالسؤال: ما الذي يجعل من هذا المارد الماليّ يفطن للكتب ويؤلف في قضايا السياسة، ويتابع كلّ الشوارد والفوائد، ويذهب نحو السجّلات القديمة ليثبت بها الحقوق الضائعة أو المنهوبة في فلسطين؛ فشهرته الاقتصادية تكفيه، ولديه ما يغنيه عن "وجع الرأس" هذا؛ غير أنّي علمتُ أنَّ الله دائماً يقيّض للمبادئ والأوطان من يحفظها ويذود عنها ويتفقد أحوالها حين يسلوها الناس أو يغريهم البريق، وفي الواقع كنتُ شديد الاعتزاز برجل عاشر البدو والفلاحين والحضر ودرس الفراسة ومعرفة الوجوه والحكم على التفاصيل في مدرسة والده سعد أبو جابر، ثمّ هو حين تستمع إليه وهو يعيدنا إلى عصور العربية الزاهرة في لغته وديباجته التي تذكرنا بابن المقفع وعبدالحميد الكاتب، تجده أبلغ البلغاء، ولا عجب في ذلك؛ فقد كان أستاذه العلامة فقيد الأدب والمعرفة روكس بن زائد العزيزي، بل إنّك لتدرك أنّ لغته الانجليزية الفخيمة هي خير من يحمل بصدق بعيداً عن خيانة الترجمة كلَّ أفكاره ونقاشاته وآرائه القيّمة والموضوعيّة في ما ألّف وكتب أو أعدّ.

كان "أبو زياد" مبتغى ومطمحاً لكلّ المنتديات والهيئات الثقافيّة والمقدسيّة والجمعيّات، والجامعات ودور النشر والعلم، تشهد بذلك كُتبه: "روّاد عبر الأردن"، و"خلاصة تاريخ كنيسة القدس الأرثوذكسيّة"، و"الوجود المسيحي في القدس"، و "موسوعة النهضة العربية الأرثوذكسيّة في أرجاء البطريركيّة المقدّسة"، و"الناصرة بلد الحب المسيحي".. و"المسيحية العربية والقدس"، و"تاريخ شرقي الأردن واقتصاده "، والسّجل الفاهومي،.. وسوى ذلك ما ألّفه عن آل الصيقلي، وآل قعوار، وآل البشارات، وسيرة أمين القدس محمد روحي الخطيب، وعائلة أبو جابر،.. (CHRISTIANITY JERUSALEM. ARAB Beyond the River: Ottoman Transjordan in Original Photograps. )

وإلى ذلك كان مخلصاً شديد الإخلاص في الحديث عن الوقف المسيحي، وحزيناً لفقدان أعلام، من مثل حزنه على البروفيسور الفلسطيني عرفان قعوار، والشاعر الأردني سليمان المشيني، وكثيرين.

ولأنّ المرء أمام الموت لا بدّ وأن تطير منه الأفكار، فيقف صامتاً ومتأملاً أمام كتاب الاعتبار، يملؤه الحزن والشفقة على كلّ ذلك الموقف والنضال والمشوار،.. فإنّ وجود رجال مخلصين لفكرهم وقضاياهم هو أمرٌ يشعرنا بخير، ويؤسس للأجيال فضاءات رحبة، كما فعل أبو جابر حين تبرّع بمليون دينار لمركز دراسات المرأة في الجامعة الأردنيّة، وهذه وحدها من مآثر "أبو زياد" وإيمانه بالمرأة ومكانتها في بلدنا وأهميّة أن تسير واثقةً في مشروعها الثقافي النهضوي دون خوفٍ أو ترددٍ أو قنوط.

لقد علّمنا أبو زياد رحمة الله عليه أن نقبض على جمر الكلمة، وأن نناظر فنحسن المناظرة، وأن نستزيد ونربط بين ما نراه أو نسمعه أو نحسّه،.. وبالنسبة لي فلم أكن أشعر من الرجل بفوقيّةٍ أو استعلاء، وإن كنت أعذره في غضبته المبررة حين يحاول أن ينال من هذه التوليفة الإنسانيّة العربيّة المسيحيّة المسلمة في الأردنّ وعالمنا العربيّ مدفوعٌ أو أجيرٌ أو حاقد؛ ولصحبتي مع "أبو زياد" طيلة خمسة عشر سنةً، فإنني أعلن أنني تعلّمت منه الكثير، وأنّي سأفتقد صديقاً وأخاً ووالداً، كان حين تخنق طيوبَ النهر شائبةٌ ما يمضي ليزرع جانبي النهر عبيراً ووروداً وأحاسيس إنسانيّة، تملؤه الحماسة في أكناف بيت المقدس، وفي الأردنّ أرض المحشر والمنشر، وأرض العزّ والرباط،.. فرحمك الله يا أبا زياد.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :