facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




ومـضـة من التاريخ


سامر حيدر المجالي
17-04-2010 11:40 PM

يتهادى الموكب في سيره، يتوسطه أمير المؤمنين المتقي لله وأهل بيته وخدمه وطائفة من أعيان بغداد. خرجوا جميعا قبل أشهر قليلة باحثين عن النصرة، فلما يئس الخليفة من إمكانها وخذله ناصر الدولة بن حمدان، قفل راجعا من الرقة، إلى موطن الآباء والأجداد، إلى بغداد حيث السلام المفقود والملك الموءود.

هم الآن على بعد خمسة فراسخ.. إن جدوا في المسير فسوف يصلون قبل انتصاف النهار. تميل امرأة برأسها نحو المتقي وتقول بصوت خفيض: "أتظن توزون صادقا في عهوده التي قطعها على نفسه؟ إن هذا وأمثاله أهل غدر وخيانة، وإني لأخشى عليك بعض مكائده". بقي الخليفة صامتا وعيناه معلقتان بالسماء، لعله كان يستجلب نصرتها، كما يفعل كل الذين يقدمون على مهام عظيمة. ما الذي يدور في رأسك الآن أيها المتقي لله؟ أتراك تقول لنفسك: " هيبة الخلافة وتراث الأجداد يستحقان المخاطرة، لن أترك بغداد لزمرة من المغامرين المتعطشين للمال والسلطة، يسومون أهلها سوء العذاب ويدوسون المجد الذي أنبته أجدادي بنعالهم". هل يشجعك ضميرك فيهتف بك من داخل: " أنت تضبط التاريخ وتعدل مساره، وتلك مهمة لا يجدي فيها إلا الوضوح والمواجهة"؟ هل تشعر بالاطمئنان إذ سكنتك روح العابد الزاهد الذي رمى مكر السياسة وراء ظهره واختار أن يكون كتابا مفتوحا يقرؤه خصومه قبل أنصاره؟؟ يصل الموكب إلى السندية، الأرض هنا عامرة بأفواج من البشر خرجوا لاستقبال خليفتهم، القضاة والتجار والعلماء والعامة، لم يبق في بغداد إلا ذو عذر. جهّزوا كل ما يلزم.. نصبوا القباب وزينوا المدينة وكسوا جدرانها بالذهب والفضة وأعدوا للخليفة سرادقا يليق بمقامه. خرجوا بمحض إرادتهم، إنهم يحبونه ويرون فيه رمز وجودهم. رأوه أخيرا فانطلقت ألسنتهم بالدعاء: "نصر الله أمير المؤمنين". هتفوا ودمعهم ممتزج بالحروف: "نفديك بحبات العيون". يتقدم توزون من الخليفة فيُقبِّل الأرض بين يديه، في عينيه خشوع وإخلاص، لقد عاهد الخليفة الغائب قبل أيام قليلة بحضور قضاة بغداد وعلمائها على السمع والطاعة وأن يكون واحدا من جملة خدمه وسيفا مصلتا على أعدائه. يرفض توزون أن يركب فرسه تواضعا لمقام الحضرة فيمشي على قدميه بين يدي الخليفة، ثم يصر على أن يُنزل الخليفة في الخيمة التي أعدها بنفسه، ينتزعه بمكر ودهاء من وسط الموكب ويميل به إلى الخيمة، ما زال الخشوع يملأ عينيه، يأمر عساكره أن يشكلوا جدارا عازلا حول الخيمة، وأن يُنزلوا باقي الموكب في السرادق الآخر الذي أعده البغداديون. لا أحد يفهم شيئا، غاب الرجلان في الداخل، الخليفة ضيف توزون الخاص، هكذا أُوحي إليهم، وهم الآن ينتظرون خروجه...

في الداخل، عدد كبير من العسكر، لا يناسب وجودهم هذا المكان، في وسط الخيمة رجل وامرأة، عرف المتقي الرجل إنه عبدالله بن المكتفي، ابن عم الخليفة. ما الذي جاء به إلى هنا؟ نظر الخليفة إلى توزون فرأى وجها قد تبدلت ملامحه وعينين يقطر منهما الشرر، أشار توزون برأسه فهجم اثنان من الجند على الخليفة وطرحاه أرضا. قال توزون للمتقي بلهجة حازمة:
- "بايع أمير المؤمنين"
- "ومن أمير المؤمنين؟!!" أجاب المتقي
- "هذا الذي تراه"
- "ما أبايعه ولا أخلع نفسي"
- "إذن يكون ما لا منه بد..."

يقترب جندي ثالث من الخليفة، يحمل في يده مجمرة وُضع فيها مسمار حديدي. يجلس على صدر الخليفة، بينما يقف توزون عند رأسه وقد علت وجهه ابتسامة الظفر. يقول له: "أتستنجد بالحمدانيين لتخرجني من بغداد أيها الإمعة التافه؟ أتطلب مني الخروج إلى واسط لأكون منبوذا محتقرا بين الناس؟ أتهيـِّج العامة على جندي حتى قتلوا منهم ما لا يحصى عدده؟ ألم تعتبر بما جرى لأسلافك من قبلك؟ إن القتل قليل عليك، من أجل ذلك سأسمل عينيك وأتركك حيا كي يستمر عذابك إلى أن يفارق وجهك البغيض هذه الدنيا"

تقف المرأة وتقترب رويدا، أحبت هي الأخرى أن تشاهد المنظر لتعيش النشوة من بدايتها. كانت تحمل في روحها ما لا حد له من الأحلام.. ستؤول دولة بني العباس إليها، تأمر وتنهى وتعطي وتمنع، ستكون علم هذه الدولة، وتظفر بأعناق الرجال وولائهم. إن للنساء شأنا خاصا حين يسكن إحداهن طموح السياسة، يتمادين في الاسترجال حتى يتفوقن على أعتى الرجال وأشرسهم. سيكون عبدالله طريقها إلى كل ذلك. نظرت إليه وغمزته بعينها فانهمك في شرابه.

كانت هي تشرب أيضا. أما توزون فأخذ يرشف خمرته على مهل وقدمه على صدر المتقي. نزع الجندي المسمار من بين الجمرات، علقت به جمرة أو اثنتان، كان ملتهبا فتعلقت بحمرته الأنظار، تصاعدت أنفاس توزون وتحشرجت أنفاس المتقي، قال بصوت اليائس: " الله بيني وبينكم"، وُضِعَ المسمار في عينه اليمنى ثم اليسرى، فسالتا على خده حبرا أسودا. انطفأت أنوارهما، وصرخ صرخة عظيمة حتى سمعه المنتظرون في الخارج، فعلا صوت النساء بالعويل. عرف الجميع ما جرى بمجرد سماع الصوت، إن في التاريخ ما يكفي للفهم. استنشق توزون صوت النائحات مع خمرته، امتلأت روحه لهيبا ونشوة، طرب حتى رقصت كل ذرة في كيانه، غرق في نهر من اللبن الأبيض يملأ جسده وخزا لذيذا، ثم أفاق، فأمر بضرب الطبول وإعلان النصر...

"منذ اليوم، السبت التاسع عشر من صفر عام ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين للهجرة، عبدالله بن المكتفي سيكون أمير المؤمنين، قوموا أيها الناس فبايعوا خليفتكم"
بايعوه من فورهم وقبّلوا الأرض بين يديه......





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :