حكاية صورة .. مطر برائحـة الأعشاشْ!
27-04-2015 05:25 PM
عمون - كتب - جهاد جبارة - سخيّةٌ هي تلك الغيمات التي تؤم السماء ذات غروبٍ تكون خلاله الأرض التي أصاب جلدها قشب الخريف تتأهب لعبور حَمّام العِطر الذي يسبق حفل الزفاف الشتائي الذي انتظرته طويلاً.
سخيّةٌ هي تلك الغيمات التي جلبت معها قوارير الماء الذي ما ان ترشه على تلك الفيافي العطشى لفرح الإرتواء حتى تنبعث تلك الرائحة التي انتظرتها أنوف المولعين بالأرض، وترابها..
تلك الرائحة تغلغلت داخل حاسة الشَمْ فصارت إدماناً لدى الحرّاث القابع خلف نار الحطب، فما ان تعبر من تلك النافذة المشقوقة حتى تطغى على رائحة النار، ودخان لُفافة «الهيشي» وعلى رائحة قشور حبات البلوط المكويّة بالجَمر، تلك الرائحة تحملُ معها الأمل الذي ما أن يشُق طريقه نحو شفاه الحراث حتى يرسم الابتسامة، وما ان يلوح على مقربة من عينيه حتى يَصبغهما ببريق الفَرَح اللامع.
تلك الرائحة وما ان تسري على حواف الحقول حتى ترى النَملَ يُسارع باغلاق منافذه خشية من الآتي الأعظم، وهي التي ما أن تمرُ على سطوح الطين حتى تتأهب طيور الدوري بنقل أثاث أعشاشها القش من أطراف المزاريب نحو تلك الصخور الغافية في خاصرة الهضاب القريبة من المراعي الفسيحة تلك الرائحة وما أن تنبعث من تراب الحواكير لتعبر نوافذ البيوت العتيقة حتى تسارع العجائز بتفقد عِصيّ الرحى، وكواير القمح، وباقي الحبوب استعداداً
لايام طويلة من البلل الذي يُحيل طرقات القرى الى طينية يصعب عليها الانتقال.
تلك الرائحة وما أن تنطلق لتعبر ثقوب بيوت الشعر المنصوبة على اطراف الصحراء حتى تتأهب اصابع الشعراء لالتقاط الربابات لتبوح الشعر موسيقى عنوانها عطر الارض.
تلك الرائحة وما أن تعُم المراعي حتى يُبادر الرُعاة برصد مواقع الغدران أملاً بسَوق قطعانهم نحوها في مُقبل الايام، وما ان تعُم الغابات حتى تسارع الغزلان بالمرور قرب الجداول الآمنة التي كانت تُغرِق بمائها الظمأ.
تلك الرائحة حفّزت عُلماء على جمعها من اجواء الغابات ليحشروها داخل علب عطرية بيعت باسعار خيالية لانها كانت عطر الارض الذي تخالطه رائحة زيوت اوراق الاشجار وباقي النباتات التي فاحت واشتبكت مع رائحة تراب الغابات عندما رشّه مطر الغيمات.
تلك الرائحة التي لا تنطلق إلا بعد جفاف طويل يعقبه مطر لم يكن احد يدري ان سببها تلك البكتيريا التي تتكاثر في التربة الدافئة لتطلق داخلها حويصلات ما ان يلامسها المطر حتى تُطلق رائحتها المحبّبة لانوف البشر تلك البكتيريا المسماة Actinomycetes تختفي رائحتها تماما في تلك المناطق الصناعية وتطغى عليها رائحة الكيماويات فتغدو رائحة مُنفرة، ومؤذية اذا ما لامسها المطر.
وتلك الرائحة دعت الكثير من علماء البيئة لدراستها حتى تمكن بعضهم من تسميتها بـ»petrichor» وهي التي تعني «دم الآلهة» كما هو معروف في الميثولوجيا الإغريقية.
تلك هي رائحة المطر الذي يعقب الخريف والتي تُعلن عن عبور الشتاء لبوابة الفصول لكنها وبالتأكيد ستحمل رائحة الأعشاش إذا ما انطلقت بعد مطر بلّل ريش أسراب الطيور التي عبقت أجنحتها برائحة أعشاش القش.