انطلقت صباح هذا اليوم الانتخابات الرئاسية و التشريعية التركية في دورتها الثانية بعد التحول للنظام الرئاسي ، والتي نجمها الابرز هو اردوغان.

تلك الشخصية التي سيطرت على مسرح الاحداث في تركيا منذ ان أنخرط بالعمل الحزبي والسياسي من خلال حزب الخلاص الوطني والذي كان يتزعمه نجم الدين اربكان.

والذي تم حله في انقلاب الجنرال كنعان إيفرين في عام 1980 وفي عام 1983 عادت الحياة الحزبية الى تركيا وانضم اردوغان الى حزب الرفاة الاسلامي الذي شكله اربكان ايضاً.

وفي عام 1994 فاز اردوغان برئاسة بلدية إسطنبول مرشحاً عن حزب الرفاة الا انه وفي عام 1997 تم تجريده من منصبه هذا ، وسجنه لمدة اربعة اشهر مع حرمانه من ممارسة اي نشاط سياسي على اثر ترديده قصيدة شعرية القاها في مدينة سرت، اعتبرها الاتاتوركيين تفرق بين الاديان ومعادية لعلمانية الدولة وفي عام 1998 شكل اربكان حزب الفضيلة واصبح اردوغان من قياداته ولغاية عام 2011 حيث تم حله ايضا بامر المحكمة . وعندما سعى اربكان لتشكيل حزب السعادة على انقاض حزب الفضيلة قرر اردوغان التخلي عن السياسة الاسلامية العلنية ، وشكل مع مجموعة من رفاقه حزب العدالة والتنمية المحافظ وذلك عام 2001.

ورغم ان من شكلوا هذا الحزب من ذوي الخلفية الاسلامية، الا انهم لم يطلقوا هذه الصفة على حزبهم، واعلنوا انهم سوف يظلون اوفياء لعلمانية الدولة . وفي العام الذي يليه حصل هذا الحزب على الاغلبية النيابية، وشكل الحكومة والتي ترأسها في البداية عبدالله غل ، الى ان تولى اردوغان رئاستها عام 2003 . وبقي في هذا المنصب لغاية عام 2014.

حيث ترشح بعدها لمنصب رئيس الجمهورية وفاز بالاغلبية ، وبقي في هذا المنصب لغاية عام 2018 . وقد تمكن اردوغان خلال هذه المدة من ان يحول تركيا الى النظام السياسي بدلاً عن النيابي ، حيث تكون معظم الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية . ثم قام بترشيح نفسه لهذا المنصب في عام 2018 من خلال الانتخاب المباشر ، ونجح باغلبية الاصوات . وبموجب التعديلات الدستورية التي ادخالها من خلال استفتاء شعبي استطاع ان يجمع كل السطات في يده ، بما فيها السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية وان يفرض سلطته على المؤسسة العسكرية ، بالاضافة الى رئاسته لحزب العدالة والتنمية . وقد سعى اردوغان خلال هذه الفترة الى القضاء على معظم معارضيه وخصومه العسكريين والمدنيين . وقسم الشعب التركي الى قسمين لا ثالث لهما ، اما وطنيين وهم من معه ومع حزبه ، او خونة وجواسيس وعملاء وانقلابيين وارهابيين ومخربين واعداء لتركيا والشعب . ولم يبخل بهذه التسميات على من كانوا قياديين في حزبه ثم اختلفوا معه .

ولكن مما لا شك فيه فقد استطاع اردوغان بشخصيته القوية وبلاغته الخطابية ان يكون له قاعدة تركية وحتى عربية كبيرة . واستطاع اعادة الطابع الاسلامي لتركيا ، بعد ان كان الاتاتوركين يحاربونه ويحاربون الحجاب ويمنعون المحجبات من الدراسة والعمل . وبنفس الوقت فقد حافظ على علمانية الدولة ، وابقى اماكن الترفية والتسلية مفتوحة ، مما حافظ على المستوى السياحي الكبير الذي تتمتع به تركيا . وبنفس الوقت فقد اهتم ببناء المساجد ودور تحفيظ القرآن ورعايتها وكان يشارك المصلين صلواتهم وكثيرا ما كان يؤمهم كما انه نجح في ان يجعل تركيا دولة اقتصادية من الطراز الاول واقام المصانع والمشاريع الاقتصادية التي انعشت الاقتصاد ورفعت من مستوى معيشة الشعب . وادار السياسة الخارجية بمهارة سواء اتفقنا معه فيها او اختلفنا ، ومن مركز قوة وندية . رغم محاربة دول الاتحاد الاوروبي له ، ورفضهم انضمام تركيا للاتحاد واقام علاقاته مع الدول الاخرى على حسب مصلحته ومصالح تركيا ، فلا صداقة دائمة له ، ولا عداوة مع احد حتى مع الكيان الصهيوني .


الا ان بروز مطامحه واهدافه في اعادة امجاد الدولة العثمانية لتركيا ، اثار عليه غضب الدول الغربية، وخوف الدول والشعوب التي كانت تخضع لهذه الدولة . كما اثار تدخله في احداث الربيع العربي ومساندته للاحتجاجات والثورات وتدخله العسكري فيها، الى انقسام وجهات النظر اليه . ففي حين نظر البعض اليه كبطل قومي ومخلص وشريف ونظيف، فأن البعض الآخر نظر اليه بصفته راعياً للإرهاب ومنظماته من اجل تحقيق مصالحه ومصالح تركيا على حساب هذه الدول واوطانها ودماء شعوبها . ولا انكر انني كنت دائما من الصنف الثاني في نظرتي لاردوغان ومن اشد معارضيه فيها . الا انني ومع ذلك كله لا انكر انه خدم تركيا والأتراك وكنت اقول لو انني كنت تركياً لربما لكنت من افضل انصاره.

وكان اردوغان يعد نفسه وحزبه لخوض الانتخابات الحالية ، والفوز فيها ،لانه يرى في ذلك بداية طريق المستقبل واعادة احياء الدولة التركية الكبرى . ولذا اخذ يقوم بالكثير من النشاطات والانجازات ، فقد بنى اكبر قصور الرئاسة في اوروبا ويمكن في العالم اجمع . وبنى اكبر المطارات والجسور ، وشبكات الطرق والمواصلات ، وربما بمستوى يفوق احتياجات تركيا . كما دخل في سباق التسلح العسكري والتصنيع العسكري والذي كلف الدولة التركية مئات مليارات الدولارات وعمل على زيادة رواتب العاملين والمتقاعدين بشكل ارهق امكانية الدولة، وبعد ان كانت ميزانيتها تحقق اعلى معدلات الوفر اصبحت تعاني من اشد معدلات النقص والعجز . وبعد ارتفاع قيمة الليرة التركية فقد هوت الى الحضيض.

واصبح الاقتصاد التركي يعاني منذ سنوات من التضخم وتراجع الاستثمارات وتراكم الديون وزادت معدلات البطالة .حيث وصل التضخم الى 21 . 80 % في شهر آب من العام الماضي وساهمت حلول اردوغان العشوائية، وليست الاقتصادية بالوصول بالتضخم لهذا المستوى بالاضافه الى انخفاض قيمة الليرة التركية الى ارقام قياسية . مما زاد حالات الفقر بين المواطنين . وبالرغم من تحسن الاحوال المالية في تركيا وانخفاض قيمة التضخم مطلع العام الحالي الا ان كارثة الزالزل التي حدثت في تركيا والتي خلفت اكثر من خمسين الف قتيل.

وتهدم اكثر من 650000 شقة ، وتقاعس المسؤولين الاتراك عن التحرك لانقاذ الارواح في البداية ، وعدم التزام الحكومة بتطبيق قانون كودات البناء المناسبة لمواجهة الزلازل ، وعدم متابعة الغش في البناء ، وتطبيق قاعدة الاعفاء من شروط كودات البناء عند كل انتخابات سابقة ، وترخيص المباني المخالفة من اجل الحصول على اصوات اصحابها ، اثارت الكثير من الغضب على الحكومة وعلى شخص اردوغان وافقده الكثير من التعاطف . ولكن الامكانيات الهائلة التي يتمتع بها اردوغان حول مصائب الزلزال الى نقاط لصالحه ، حيث وعد ببناء كل منزل او متجر او مصنع او مزرعة تضررت نتيجة الزلزال ،وخلال عام واحد ، وتعهد بدفع تعويضات مالية لكل من تضرروا نتيجة الزلزال من المواطنين على مختلف مهنهم . وكل هذه الوعود وغيرها عادت ورفعت من اسهمه وشعبيته . ثم اعلن عن زيادة رواتب العاملين في الحكومة ،ومضاعفة الحد الادنى للدخول ، وهو يعلم مدى صعوبة تحقيق ذلك . مما يجعله الجانب الرابح في الانتخابات ، حيث يتوقع ان يقوم كل المتضررين على انتخابه على امل ان يحقق لهم هذه الوعود وفي حال سقوطه سيضع كل هذه الحمولة على ظهر المعارضة العاجزة عن تنفيذ هذه الوعود والتي لن يكون بمقدورها القيام بذلك.

وبقي بعض الكلمات في مقالتي ، في السابق كان اردوغان وحزبه وانصاره في جانب واحد ، في حين ان المعارضين كل منهم في جانب مما يجعل الاصوات المعارضة تتوزع عليهم ويخسروا جميعاً . في هذه الانتخابات توحدت المعارضة ضده ومن بينهم من كانوا في صفوفه ومن اقرب المقربين له ، ولكن يبقى هذا الائتلاف هش وليس له قواعد ومعرض للانهيار في اي لحظة . كما ان الانتصار في هذه الانتخابات لايقبل القسمة على اثنين ، فنجاح طرف بمنصب.

الرئاسة دون ان يحقق النجاح نفسه في مجلس النواب سوف يؤدي الى فوضى سياسية وتشريعية لا حل لها الا باعادة الانتخابات وفي السابق كان لا جدوى من دعم الغرب واعداء اردوغان لمعارضيه لعدم وجود فرصة لهم في الفوز ، في حين انهم سوف يدعمون هذه المعارضة بكل قوتهم في هذه الانتخابات لاسقاط اردوغان الذي اصبح يمثل شوكة في حلق الغرب في صراعه مع روسيا في المسألة الاوكرانية ، مما يجعل من سقوط اردوغان دفعة قوية لهم في مواجهتهم لروسيا ، ولتحويل العالم الى سيطرة القطب الواحد.

وانا ولهذه الأسباب أتمنى لاردوغان النجاح في هذه الانتخابات ، ولكن هذا لا يدعوني لسكب الدموع على خسارته . كما ان فوز المعارضة سيكون يوماً اسودا بالنسبة لي ، ولكن خسارتهم لن تعني لي انتصاراً . كلا طرفي المعادلة هم اتراك فلنتركهم يقررون مستقبلهم لوحدهم ولكن على ان لا يكون ذلك على حساب مستقبلنا .