اشتغالات جمالية ودرامية بديعة تجتاز الصور والمفاهيم في مهرجان القاهرة
05-12-2024 06:47 PM
عمون - من ناجح حسن - أكدت الدورة الخامسة والاربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، التي حملت فعالياتها شعار (آفاق بلا حدود)، انه بات حالة ابداعية كواحد من اشهر الركائز السينمائية في المنطقة العربية، وأبوابه مشرعة على سائر صنوف صناعة الافلام في العالم بتنوع تياراتها واتجاهاتها.
احتشدت اقسام المهرجان هذا العام بأطياف متميزة من الافلام الروائية والتسجيلية بشقيها القصيرة والطويلة، توزعت على: اقسام المسابقة الدولية، خارج المسابقة، أفاق السينما العربية، مسابقة أسبوع النقاد الدولية، مسابقة الافلام القصيرة، عروض خاصة، البانوراما الدولية، عروض منتصف الليل، كلاسيكيات القاهرة، والبرامج الخاصة التي سلطت الضوء على السينما الفلسطينية.
استهلت العروض بالفيلم الروائي الطويل المعنون "أحلام عابرة" للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي يواصل فيه مسيرته المديدة بعالم صناعة الافلام، وفي هذا الفيلم اختار مشهراوي اسلوبية افلام الطريق ليستكشف فيه احوال ووقائع وشخصيات وعلاقات في اكثر من مدينة فلسطينية مثل: القدس، بيت لحم، وحيفا.
جالت كاميرا الفيلم في باحات وبيوتات وميادين ومعالم تلك المدن بأحاسيس ومشاعر متباينه، مغمسة بالحنين والشغف رغم حالة التنافر والانقسام والاختلاف بين افراد الاسرة والاقارب والناس العاديين، كل ذلك يسري من خلال قصة فتى يبلغ من العمر اثني عشر عاما، يقطن في مخيم للاجئين الى جوار والده وجدته، ينطلق الفتى بصحبة خاله في عملية بحث شاقة عن طائره الأليف الذي فقد اثره، لكنه لديه قناعة ان طيره الضائع قد عاد الى مدينته الاصلية في بيت لحم.
ليس بغريب على مشهراوي ان يقدم مثل هذه الصورة الواقعية لأحداث فيلمه، وان يطوف بإحساس عذب، في اكثر من بيئة فلسطينية، يطرح فيها معاناة وجدل الناس هناك بشفافية وهي تتأمل تلك الظلال، التي تسود حياة البعض منهم، ويقدمها برؤى درامية وجمالية مثيرة للجدل والخلاف، لكنها قطعا تستحق الاهتمام والاعتناء.
وتواصل السينما الرومانية الجديدة مسيرتها في دنيا الاطياف والاحلاف بعد غياب، وتنجح هذا العام في قطف جائزة المهرجان الكبرى "الهرم الذهبي" عن الفيلم المعنون "العام الجديد الذي لم يأت ابدا"، اول فيلم روائي طويل لمخرجه بوجدان موريشانو، وفيه استعادة لحقبة الثورة الرومانية ابان اندلاع موجة المظاهرات المناهضة للحزب الحاكم آنذاك.
يعاين موريشانو موضوع فيلمه بأكثر من سردية درامية تتناول مخاض تلك الايام التي سبقت الثورة، والتي يتدرج في التصعيد بالأحداث وصولا الى لحظة التحرر والانعتاق من طوق الهيمنة والتسلط والظلم، كل ذلك يجري وفق بناء درامي ينهض على سيناريو سلس يحكي احوال مجموعة من الشخصيات المتباينة الاهتمامات والتي تدفع بالانتقال في ايقاع الاحداث من مناخ الى آخر تكشف عنها تفاصيل العيش اليومي قبيل الاحتفال بالعام الجديد، تكشف عنها لحظات الخزف والارتياب والقلق والحيرة الى ان يجري تتويجها بذروة الانتصار والخلاص.
كان الفيلم نموذجا للعقلانية المنفتحة، نأى فيه مخرجه عن المباشرة والدراما الزاعقة، وكانت كاميرا العمل اشبه بأسلوبية قلم الكاتب الروائي، باحثة وفاحصة لأحوال معيشية يومية متناقضة، لا تلبث ان تقتحم ذوات وافئدة الناس العاديين، بقوة الصورة في تزامن مع شموخ التحدي والغوص الى ابعد مدى بحرية الانسان وقضاياه وتجاربه ذات الطموح الانساني في الارتقاء والخروج الى أفاق رحبة.
ولئن كان فيلم "العام الجديد الذي لم يأت ابدا"، سجل ذروة الادهاش والمتعة في المهرجان، فذلك لأنه استطاع ان يمزج بحساس ابداعي فطن اكثر من حبكة درامية بسيطة داخل فترة زمنية عصيبة في المجتمع الروماني، على نحو استعاد الآفاق التاريخية لوقائع من الماضي القريب وحولتها كاميرا المخرج الى حكايات بديعة يطل منها على تحولات جسام مفعمة بالآمال والفهم العميق لعوالم درامية آتية من بطون الواقع مزنرة بمفردات اللغة السينمائية استطاعت بحذق ومهارة البساطة والميزانية غير المتكلفة ان تعانق بمشهدية لافتة افلاما عالمية ضخمة من بين الكلاسيكيات المشبعة بالأحداث والاستعراضات طالما حاكت محطات شبيهة في التاريخ الانساني.
الى جانب تلك التحفة السينمائية، حضر الفيلم الروسي المعنون "طوابع البريد" للمخرجة نتاليا نازاروفا، التي نالت عنه جوائز ثلاث هي: الهرم الفضي، افضل ممثلة، أفضل ممثل، عن حركة العمل اليومي في مكتب بريد ومحاولات افراده من نساء ورجال استكشاف ذواتهم عبر علاقات متناقضة داخل ورديات العمل في امكنة محدودة لا تتعدى مكتب البريد وشوارع وباحات بلدة بسيطة، في اجواء من العزلة والبرودة والصمت والخواء العاطفي، كما احتوى برنامج عروض المسابقة على جملة افلام متنوعة من بينها الفيلمين العربيين: المصري "دخل الربيع يضحك" لنهى عادل، التي صورت فيه اربع قصص، دارت موضوعاتها ما بين الاسرار والغضب والاحزان والدموع الخفية وسط دعابات ومواقف كوميدية لافتة ولكن مع قرب نهاية الربيع تأخذ الاحداث تتداعى مع تلاوين من اوجاع الحياة ومعاناة افراد وجماعات جرى ادارتهم بتلقائية وعفوية، داخل مناخات قاتمة محملة برياح الخماسين التي تأتي خلال فصل الربيع بحيث تضيع فيه البهجة المرجوة وتظهر الحقائق وقسوة الطبيعة، اما الفيلم الثاني فهو اللبناني "موندوف" لكريم قاسم، الذي تدور احداثه في اجواء مماثلة هو موسم الحصاد، لكن الجفاف غير العادي يتسبب في مشكلة مياه القرية عندما اعتاد الاهالي على اقامة عرض مسرحي سنوي، برع فيه المخرج على نحو مميز في تقديم لمسات تحاكي ملامح من الواقعية السحرية التي تنطوي على تعابير في الاداء التمثيلي داخل بيئة بسيطة ثرية بأشكال من السرد العفوي وفطنة القبض على مفردات اللغة السمعية البصرية.
بينما اشتملت عروض اسبوع النقاد على الفيلم الوثائقي الطويل المعنون "ابو زعبل 89" للمخرج المصري بسام مرتضى، الذي يستعيد فيه مخرجه الشاب سنوات طفولته الاولى عندما كان والده يقضي محكوميته في السجن المصري الشهير، وظّف فيه الكثير من الصور واخبار من قصاصات الصحف والعديد من التسجيلات وشهادات شخوص على تلك الوقائع التي تتحدث عن تحولات تلك الفترة، نجح فيها العمل الاحاطة بأبعاد تلك الحالات على ايقاعات من الظروف الصعبة داخل لجّة من العلاقات والتحولات الزمنية، التي تجمع بين افراد الأسرة واصدقائهم ومعارفهم، في منحى انساني متين مفعم برؤية واسلوبية محكمة البناء، يغوص في مداواة الماضي القريب، دون ان تغفل عين الكاميرا وهي تحوم حول الأمكنة وتحاور شخوصها، عن طرح اسئلة الواقع في مشهدية بليغة.
واحتوى برنامج اسبوع النقاد على جملة من الافلام التي تختصر احدث انجازات الشباب الجدد الآتية من القارات الخمس منها: "الذهب المر" للمخرج التشيلي خوان اوليا، "تاريخ موجز لعائلة" للصينية لين جيانجي، "قاتلة "لليونانية ايفا ناثينا، "سبتمبر تقول" للايرلندية ايريان لابيد، "سيمون الجبل" للأرجنتيني فيدريكو لويس، "الماس خام" للفرنسية اجاث ريدنجر، وكان هناك الفيلم المغربي "راضية" لخولة أسباب بن عمر .جرى فيها تسليط الضوء على تلك العلاقات الانسانية التي تهتم بالأسرة والاحوال التي تعيش فيها المرأة في اكثر من بيئة انسانية وعن المعنى الحقيقي للنجاح والتفوق، مثلما ترصد اطوار المجتمع الابوي في قهر المرأة ومحاولات البعض منهن الانعتاق من قيود العادات والتقاليد والهيمنة والقسوة ومرارة القوانين السائدة، كل ذلك يجيء باشتغالات جمالية درامية ممتعة محكمة الصنعة والافتتان باختيار موضوعاتها، تستند في البعض منها الى وقائع حقيقية، والعض الاخر مأخوذ عن نصوص من السرديات الأدبية.
حزمة من الافلام العربية الجديدة، غطّت المشهد السينمائي العربي من المحيط الى الخليج، نجح القائمون على المهرجان رغم المنافسة الحادة بين مهرجانات السينما العربية والعالمية، في استقطاب عرضها الأول بهذه الدورة، من بين تلك الافلام: "حالة عشق" لكارول منصور ومنى الخالدي، جرى فيه تلخيص رحلة الطبيب غسان ابو ستة الى غزة في ذروة العدوان الاسرائيلي على غزة، وشهادته على ما جرى ارتكابه من جرائم غير مسبوقة بحق اهالي غزة من نساء واطفال وشيوخ، في حين صوّر الفيلم اللبناني "أرزة" لميرا شعيب، حالة عيش البسطاء في بيئة لبنانية منقسمة، وذلك عندما يجري سرقة دراجة فتى يستخدمها في بيع منتوجات بسيطة عائدة لأسرته الفقيرة، ثم يأخذ في البحث عنها في كافة ارجاء المدينة الكبيرة واصفا وعارضا الوانا من الممارسات السلبية والحالات الصعبة والاجواء في واقع قاتم يؤثر على حياة الناس هناك والمرأة على نحو خاص، وبالتالي نجحت فيه مخرجته بوضع بصمتها الخاصة سواء في توظيف طاقات شخصياته التمثيلية او في اختيارات الموسيقى التصويرية الآتية من آلة البزق عندما كانت كاميرا العمل تطوف في الامكنة الشعبية، بدا وكأن العمل في محاكاة للفيلم الايطالي الكلاسيكي "سارق الدرجة" لفيتوريو دي سيكا، بيد ان المخرجة هنا راعت ضرورة الاختلاف واتجهت الى سردية بليغة في مواجهة انفلات واقع اجتماعي وسياسي واخلاقي ينذر بالتغيرات والتحديات الجسام، ومدى ذلك على الشباب والبطالة والتفكك الاجتماعي.
"سلمى" للسوري جود سعيد، يعمل على جمع شتات شخصيته الرئيسية وهي سلمى امرأة وحيدة تسعى لأخذ مكانتها في بيئة انسانية صعبة مثقلة بالهموم بعد ان وجدت نفسها فريسة انتظار زوجها المعتقل على خلفية قضية سياسية، وهناك مصيبة جديدة بعد ان داهمها زلزال مدمر وضعها في موقف اكثر قسوة، عندما تأخذ على عاتقها مهمة مساعدة اسرتها وجيرانها الذين دمرت بيوتهم بفعل هذه الكارثة، فهي اصبحت ترعى ابنة شقيقتها المتوفاة رغم امكانياتها المحدودة، لتبقى تحيا على هامش مجتمع بانتظار عودة زوجها المغيب قسرا، الفيلم يعاين مظاهر الفقد والفقر والضغوط الاجتماعية والسياسية التي تقود الى مصير مشرع على بوابات العزلة ومعاناة الانتظار، مثلما ناقش بإحساس درامي وسينمائي بديع محطات في الحياة والأسرة والطبيعة والموت ومواقف الألم والزيف والخداع.
باقة قيمة من ابرز واشهر انجازات السينما العالمية، نجح المهرجان في جلبها من بين تلك الاعمال اللافتة، التي شاركت في كبرى مهرجانات السينما العالمية : "كان"، "برلين"، و"فينيسيا"، نالت حيزها الخاص في مهرجان القاهرة، ضمن قسم "البانوراما الدولية"، من بينها الفيلم المعنون "سامية" للمخرجة الألمانية ياسمين شامديريلي، التي استوحت موضوعه عن العداءة الصومالية الشابة "سامية"، التي نجحت بتمثيل بلدها الفقير في اولمبياد بكين العام 2008، صاغت المخرجة ببراعة حبكة درامية لافتة تقترب من عوالم سينما التشويق، حين التقطت شخصية الفتاة "سامية"، من بين براثن ميليشيات المسلحين التي تنتشر في شوارع الصومال، ومشاهد القتل المجاني واحوال الناس ومعاناتهم من التهميش والفقر المثقل بالقيود الاجتماعية، عدا عن الاخطار الجسام جراء فوضى الحرب الاهلية التي تعصف بالصومال، بيد ان رغبة "سامية" المضي قدما في تحقيق آمالها واحلامها الواسعة خارج بيئتها ووطنها، فهي تقرر اللجوء الى اوروبا عبر قوارب الهجرة. رغم ما تؤدي اليه هذه المخاطرة من عواقب وخيمة على حياتها.
واحتوى القسم الرسمي خارج المسابقة، على ثلاثة افلام روائية طويلة، ناقشت مواضيع انسانية ساخنة طافحة بالمعالجة السينمائية الاثيرة لعشاق الفن السابع، دارت وقائعها في اكثر من فترة زمنية تتواصل بين الحاضر والماضي القريب، منها الفيلم البرازيلي "ما زلت هنا" للمخرج والتر ساليس، المأخوذة أحداثه عن نص روائي للكاتب مارسيللو روبينز بايفا، صوّر فيه حكاية امرأة هي أم لخمسة اطفال، تحدت الحكم العسكري في البرازيل العام 1971 عندما جرى اعتقال زوجها النائب السابق بالبرلمان، لتأخذ على عاتقها البحث عنه في زنازين السجون، متسلحة بشهادات واثباتات لجماعات قانونية، رغم قيام السلطات الحكومية بعمليات اخفاء لكثير من تلك البيانات التي تفضح مؤامرة تغييب زوجها. حقق ساليس هذا الفيلم بإبهار مشهدي حميم في اداء ممثلته التي قامت بتجسيد دور الأم على مدى عشرات السنين ممن البحث الدائم على خفايا تغييب قضية زوجها، بانت فيها تلك الملامح والحركات التي تفتضيها مناخات هذا العمل الراقي، القائم على قوة بناء السرد الدرامي والجمالي الفتان بواقعيته وابعاده ومراميه البليغة.
تجاوز فيلما: "كعكتي المفضلة" للثنائي مريم مقدم وبهتاش سيناعيه، و"الشاهدة" لنادر سيفار ، تلك الصور المحظورة في السينما الايرانية، بلمحاتهما الانسانية ومفرداتهما الجمالية وافكارهما الجريئة والملهمة التي تعبر القواعد والاحكام التي تشترطهما الرقابة في ذلك البلد، وفيهما يبرز دور المرأة في السعي نحو التحرر والانعتاق من الأسوار والقيود التي ظلت اسيرة لها، فهما فيلمان يناقشان بجرأة درامية بليغة حياة المرأة في الحياة اليومية وما ينتابها من شعور بالوحدة والتهميش وبحثها عن فرص حقيقية للانطلاق في الواقع الصعب وهو ما يقودها الى أن تقبض على اللحظات الجميلة، كل ذلك يأتي بفرادة الاداء الرومانسي على خلفية من الدعابات السوداء المختلطة بالمشاعر والعواطف والآمال العذبة، في وقت متأخر من سنين عمر المرأة، وذلك بغية الوصول الى اثبات الذات، في الوصول الى حلم سلامها الداخلي، في معانقة لحظات من البهجة، رغم كل العقبات والتهديدات ومحاولات التنمر، التي تعاند تحليقها بفضاءات الحرية الرحبة.