المطاردة والفوز بالجائزة
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
03-03-2025 07:16 PM
في هذا المقالة سأحاول أن أجيب عن بعض الاسئلة التي طرحتها في المقال السابق و التي ملخصها كيف للشباب و للاكبر عمرا الوصول لحياة أفضل فيها شغف و طعم و لون.
يبدو أن دماغ الانسان لا تختلف برمجته كثيرا عن باقي الكائنات الحية و بالتالي فهو قائم على السعي و التنافس و الصراع و القتال ليحافظ على بقاء الفرد و تناسله. بمعنى آخر أن الدماغ مصمم بالعمق للمطاردة و ليس للفوز بالجائزة. فالفوز بالجائزة يحقق سعادة و متعة عابرة تنتهي سريعا في حين ان مطاردة الاهداف يمنح متعة متكررة يبقى الفرد في حالة حركة و سعي و يضمن القدرة على البقاء.
أمثلة على ذلك المغامرون فهم دوما يسلكون التحديات الصعبة التي تعطيهم متعة المطاردة و ما أن يفوزوا بتحقيق هدف حتى يبحثوا عن غيرة و ذلك ايضا نراه مثلا في لعب القمار فاللاعب يهدف الى الفوز و لكنه لا يتوقف ان فاز او خسر لان المتعة هي في مطاردة الفوز و هذا نراه ايظا في السعي الى الشهرة و الاستعراض و القيادة الخطرة عند الشباب فالجميع يطارد الهدف و الجائزة و هي جلب الانتباه و التقدير المجتمعي (مجتمع ذلك الفرد) قصير الأمد و لا ينتهي ذلك السعي بالحصول على ذلك بل يصبح حافزاً للمطاردة من جديد.
حتى بعض السياسيين و الذين ينظر لهم المجتمع بانهم الأقدر عاطفياً على ضبط النفس فجزء من سلوكهم جذب انتباه الاعلام و تقدير الجماهير و ذلك اكثر وضوحا في الغرب حيث يلعب عاملي الاعلام و الجماهير دورا حاسما في السياسات.
كل ما سبق نجد له انعكاسا واضحا في تركيبة الدماغ البشري على مستوى التشابكات العصبية و توازن المواد الكيميائية فالدماغ البشري يسعى دوما لإفراز الدوبامين كونه يعطي الانتباه و الدافعية و القوة و القدرة على التحدي في حين نجد ان افراز المواد التي تعطي السعادة يكون قوي و لكن قصير الامد مثل افراز الاندورفين و الاوكسيتوسين و السيروتونين عند تحقيق هدف تجد فرحة عارمة و قوية و لكن لا يسمح لها الدماغ بالبقاء طويلا بل يتبعها بالملل و الفراغ ليسعى الفرد من جديد للمطاردة و افراز الدوبامين.
هنالك شركات كبرى تتعامل مع الفرد من هذا المفهوم مثل السويشال ميديا فتقليب الصفحات هو نوع من المطاردة تفرز الدوبامين في حين لا تعطي الدماغ مجالا للتوقف طويلا عند موضوع و قراءته بتدقيق و عمق. هنالك ايظا شركات الانتاج فهي تهدف الى الاستهلاك و زيادة الاستهلاك لذلك تجد ان معظم الاعلانات تزيد نسبة الدوبامين و ما ان يشتري المستهلك سلعة حتى يبدأ بالبحث عن سلعة اخرى و قد لا يكون بحاجة اي منهما لكن ذكاء هذه الشركات في استغلال ميل الدماغ للمطاردة و ليس الفوز فلو اكتفى الناس بالفوز بسلعة ما لتوقف او تراجع عمل هذه الشركات.
حتى في الحياة اليومية جزء كبير من الشباب يرغب بالارتباط و لكن لا يرغب بالالتزام بذلك الارتباط و هذا جزء من مطاردة الدوبامين لتحقيق الجائزة ثم المطاردة من جديد.
ذكرت سابقا مثالا يوضح قوة الدوبامين (السعي و المطاردة) في حالة الخاطب و المتزوج. فالخاطب اذا تلقى طلب بسيط من الخطيبة يدفع الدماغ بكميات من الدوبامين يدفعه لان يقطع المسافات و يبقى متحفزا و يتناسى التعب لتحقيق و لو طلب بسيط للخطيبة في حين بعد الزواج (الجائزة) و تلاشي محفزات الدوبامين فقد يجد نفس الخاطب سابقا المتزوج حاليا تثاقل و عبء في احضار طلب بسيط من الغرفة المجاورة الا اذا تواجدت آلية لاعادة تحفيز الدوبامين من جديد.
لذلك فإن القدرة على المضي في الحياة بشكل شغوف هو في مطاردة اهداف تتجدد دوما و أن تكون قابلة للتحقق بمعنى آخر هو وجود الأمل و ليس في تحقيق الأمل فقط.
لكن الدماغ فصل الاهداف الى مجردة و ذات قيمة فالاولى تعطي دفقات دوبامين قوية و لكن لا تدوم طويلا لذلك تحتاج لدفقات اكبر و ذلك ما نسميه الادمان في حين ان الثانية تعطي دفقات متزنة يصاحبها دفقات المواد الاخرى بشكل متوازن مما يعطي ما نسميه بالرضى او راحة البال او نوع من السعادة الأطول أمدا.
للتوضيح فإن الاهداف المادية البحته مثل المال و الشهرة و الاستعراض و الاستهلاك و السوشيال ميديا و العقاقير المخدرة و النساء جميعها اهداف مجردة للدماغ الا اذا اعطيت معنى و قيمة و بالتالي فإنها تحتاج الى تكرار بل و رفع دفقات الدوبامين للحصول على نفس التأثير. ذلك قد يلاحظه الفرد العادي في سلوك بعض المشاهير او مدمني الادوية او القمار او السوشيال ميديا او العلاقات العابرة او بعض عمليات التجميل أو المتوجهين اجتماعيا او السلوكيات الخطرة خصوصا في جيل الشباب و المراهقين الذين تكون إفرازات الدوبامين في أوجها. لا بل انني كمهتم في هذا الموضوع أجده في حالات سياسية و اقتصادية و ثقافية احللها يوميا من الاعلام.
بالمقابل فإن الضابط لعملية السعي و القتال و الصراع و التنافس و المطاردة في الدماغ هو قيمة الاهداف لذلك تجد في التاريخ ان ذوي الاهداف القيمة حتى و لو فقط من وجهة نظرهم كانوا اقدر على تحمل المعاناة و الاستمتاع بالمطاردة خلف اهدافهم حتى لو كان بها هلاكهم فالدماغ يعلي من قيمة الاهداف و معنويتها فالهدف هو البقاء و التناسل و الخلود المادي او المعنوي.
حتى لا أطيل فإنني سأوضح في المقال القادم كيفية الاستفادة من ذلك في السياسة و الحياة الاجتماعية و اعطاء طعم للحياة و إنني ارى أن مجتمعات و مؤسسات أخرى في الخارج استفادت من هذه الحقائق للتسويق و رص الصفوف بل و التحكم بالجماهير و الصورة الانطباعية و تغيير رؤية افرادها للواقع بدل تركهم ليسعوا لتغيير الواقع.