سلسلة العقل و الحياة1: مشرط جراح و قلم كاتب
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
09-06-2025 06:57 PM
في لحظات خاصة تجتاحني حالة من التأمل تتوالى فيها صور و تخيلات و أفكار تثيرها حالة خاصة او منظر مهيب. قد يكون أكثرها تكرارا معي هو في عمليات الدماغ على منطقة الفص الامامي فهنالك في مساحة لا تتعدى ثلاثة سنتيمترات مربعة او اقل تقع المنطقة المسؤولة عن التفكير و التخطيط و القرار و كبح الرغبات و الغرائز و العواطف.
ما ان اكشف عن تلك المساحة و قبل ان يبدأ مشرطي بالتجول هنالك تأتي لحظات تأمل تسبق التركيز و الانغماس في العمل. تمر في تلك اللحظات فكرة ان هذه المساحة الصغيرة هي من تجعل الانسان إنسانا فهنا يستجلب الخيال و مخزون الذكريات و المعرفة ليضع احتمالات المستقبل و هنا يقرر و هنا ينضج فيلتزم بالأعراف الاجتماعية و القوانين و يمنع الانفلات في السلوك و هنا يقاوم الخوف فيوصف بالشجاعة و هنا يقاوم البخل فيوصف بالكرم و هنا يقاوم الغضب فيوصف بالحليم لذلك فهنا في هذه السينتميترات القليلة تتكون الارادة و تتدرب و تنمو و كأنها عضلة فتمنح القوة الداخلية. في هذه اللحظات أعرف ان كل ضربة لمشرطي قد تنزع جزء من انسانية الفرد و تعيده الى سيطرة الدماغ الحوفي و القاعدي بما تحمل من غرائز و عواطف و رغبات لا تحكمها قيم او قواعد سوى نزعة البقاء و التكاثر التي تخزنت في تلك السراديب المظلمة من شريطنا الجيني كما كل الكائنات الحية. تلك اللحظة التي سيبدأ مشرطي بالحركة بين حدود الانسانية و اللاعقلانية فحركة خاطئة هنا او هناك سترفع القلم عن ذلك الكائن فينطلق حرا من كل القوانين و القواعد و الاعراف لكن عبئا على محيطه و فاقدا للتميز بين الخير و الشر و الصواب و الخطأ و الاهم فاقداً لارادته الواعية. إنها لحظات تأمل تمر متسارعة ترسم أمامي حدود مشرطي و تحملني مسؤولية انسان و تشكل دوما دافعا قويا للمعرفة و التعلم و المتابعة حتى لا أجتاز ذلك الخيط الرفيع من هوامش حدود تلك المساحة من القشرة الدماغية.
تنتهي العملية و يعود ذلك الانسان لحياته الطبيعية و يبقى شريط تلك الافكار يمر كطيف في خيالي حيث التشابكات العصبية في تلك المساحة الصغيرة هي من تميز بين النجاح و الفشل و التعصب و الاعتدال و الاداري الناجح و الفاشل فالخيال و التفكير تنتج احتمال الممكن و المعرفة و القرار تحدد الواقع و كلها هنا.
في لحظة تفكير عميق بعد شرب فنجان من القهوة العربية في طاولة منعزلة في مقهى هادئ و من وحي تلك اللحظات في غرفة العمليات تتوالى افكار و خيال و احلام في عقلي الباطن يربطها بالاحداث و المجتمع لافهم كيف يعمل عقل الجماهير و الافراد و المسؤولين و احيانا الساسة رغم انني لا احب السياسة بل احيانا اشفق على الساسة فأنا جراح اتعامل مع المتوقع حتى لو اختلف قليلا عن السيناريو الذي رسمه دماغي للعملية من خلال الفحص السريري و صور الرنين أما السياسي فلا يملك ما يصور له المخفي في قادم الايام فقد يضع السياسات و الخطط و يرسم الطريق لاشهر او سنوات ثم يأتي حدث ظاهره هامشي في عالمنا المترامي و لكنه يهز كل تفاصيل عالمنا و فيروس كورونا او تفجير هنا او هناك او قرار فردي في لحظة انتشاء من شعور العظمة او هزة مالية في اي ركن من كوكبنا قد تكون جناح فراشة تهتز فتنتج سلسلة من الأعاصير التي تجتاح كوكبنا فتتحول خطط الساسة و آمالهم عصف مأكولا لذلك لا احب السياسة و اشفق على السياسيين احيانا فهم يتعاملون مع عالم متغير مترابط في التأثير مختلف في المصالح.
بعد رشفتين من القهوة اغبط الاعلاميين فاتخيل انهم يملكون سلطة لا متناهية مع مسؤولية متناهية الصغر و قد أكون مخطئا في ذلك. لكنني اتخيل ان الاعلامي ينقل الحدث و يرميه على كتف السياسي و قد يضفي عليه منظور و صورة من زاوية محددة و يترك لذلك السياسي ان يمتص و يبرر للجماهير التي تتحرك بعقلها الباطن فتجد العاطفة و المصلحة و الصورة اقوى من الرصاص و نقفل نحن النخب باب برجنا العاجي و نراقب المشهد الى ان تنجلي غباره. لكن ماذا بيدنا نحن النخب فالجماهير لا ترغب بالمنطق و هذا ديدنها منذ تشكل او مجتمع انساني و كان البقاء هو الهدف و حتى في العصر الحديث ماذا تستطيع النخب ان تصنع و هي تهمش احيانا و تعاقب احيانا و يلتفت لها نادرا فلو نظرت في العالم الثالث نادرا ما تجد للعلماء و المفكرين صوت او ممثل او منصة و أقصى ما يحصلون عليه جملة مديح مثل انتم ضمير الأمة لكن في الواقع هم ليسوا اكثر من سكان ذلك الطابق المسروق او ما يدعى الميزانين في البنايات، هو موجود على ازرار المصعد ممثل بالحرف ام بالانجليزي لكن لا أحد يعرف ما فيه او لماذا هو موجود اساسا. سكان ذلك الطابق ان طالبوا بان يكون لهم دور و مكانة فالإجابة جاهزة فإن كانوا في مقتبل العمر قيل لهم ما زلتم شبابا فانتظروا دوركم و بعد ان يمضي بهم العمر قليلا ان رفعوا صوتهم من جديد ليكون لهم دور قيل لهم انتم كبرتم على ذلك و الآن التوجه لتمكين الشباب. اذا لماذا لا يقبعوا في طابقهم المنسي ام بالانجليزي فلا يعرف بهم ركاب المصعد سواءا الصاعدون من الطابق الارضي او العائدون اليه.