الأحزاب اليوم أمام واقع يفرض عليها أن تجيب على سؤال واحد: كيف تحافظ على حضورها، ليس كمجرد تمثيل نيابي، بل كقوة سياسية ومجتمعية ذات عمق واستمرار؟
مثّل إطلاق اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية محطة تأسيسية في إعادة الاعتبار للحياة الحزبية. فُتحت الأبواب أمام الأحزاب لتعيد تنظيم صفوفها، ودُعمت العملية التشريعية بمناخ من الإرادة السياسية والرغبة في تطوير الحياة العامة، من رأس الهرم السياسي إلى قاعدة المجتمع. بدا حينها أن الأردن يتجه إلى عهد جديد من التعددية الحزبية المسؤولة والمؤطرة قانونيا.
لكن هذا الزخم، رغم ضرورته، لم يُترجم بشكل كافٍ إلى بناء حقيقي داخل الأحزاب. كثير منها انشغل بالاستجابة الشكلية لمتطلبات التحديث، دون أن يعيد النظر جوهريا في بنيته التنظيمية، أو رؤيته المجتمعية، أو آليات عمله الداخلي. وبقيت بعض الأحزاب تراهن على لحظة الدعم، بدل أن تُوظفها في بناء أساس مؤسسي صلب يُمكّنها من الاستمرار حين تهدأ الحماسة العامة.
وقد شكلت الانتخابات النيابية اللاحقة أول اختبار فعلي لما أفرزته عملية التحديث. فقد تنافست الأحزاب في ظل قانون انتخاب جديد، ودعم رسمي وشعبي غير مسبوق. بعضها تمكن من دخول البرلمان، وبعضها بقي دون العتبة، وآخرون علِقوا عند نصفها.
كانت تلك لحظة اختبار حقيقية للقدرات التنظيمية والسياسية. لكن، في الوقت نفسه، الانتخابات ليست نهاية المطاف بل بدايته. فدخول البرلمان ليس ضمانا مفتوحا لرسوخ الحزب، مثلما لم تكن الخسارة نهاية. والأحزاب التي تعرف كيف تبني على نتائجها – أياً كانت – ستكتشف معنى العمل الحزبي الحقيقي بعد الانتخابات وليس خلالها.
اليوم، بعد ان هدأت الحماسة العامة، وبدأت المرحلة الأكثر واقعية. ولم تعد الأضواء مسلّطة، ولم يعد الدعم بنفس الزخم. من تبقى الآن هو الحزب، في ميدانه الواقعي، بين جمهوره، بخطابه، وقدرته على التنظيم.
هذه المرحلة ستفرز بوضوح بين الأحزاب الموسمية وبين الأحزاب التي تؤمن أن بناء ذاتها يحتاج إلى عمل يومي، طويل النفس، يستند إلى رؤية متكاملة، لا إلى رهان ظرفي. فالتنافس والتحدي الآن بين كل حزب ونفسه: هل يملك القدرة على التجدد؟ على بناء كوادر فاعلة؟ على صياغة مشروع شامل؟ من يقدر على ذلك سيبقى، ومن لا يقدر… سيتآكل بهدوء.
لقد استنفدت المرحلة السابقة أغراضها، وآن الأوان أن تعود الأحزاب إلى أداء دورها الكامل، لا باعتبارها مستفيدة من لحظات الدعم بل بوصفها فاعلاً سياسيا حيويا يبحث عن موطئ قدم راسخ في المشهد الوطني.
وهذا يتطلب من الأحزاب أن تتجاوز منطق ردّ الفعل، وأن تتحرر من عقلية الانتظار. المطلوب الآن إعادة تعريف الذات الحزبية: التنظيم، القيادة، البرامج، التموضع المجتمعي، التحالفات، الخطاب، وآليات التأثير.
فلا بقاء لحزبٍ يراوح مكانه، ولا مستقبل لحزبٍ لا يملك خطة تتجاوز البيان الانتخابي. وحدها الأحزاب التي تتجدد من الداخل، وتتموضع بوعي في الخارج، قادرة على أن تحافظ على مكانتها، وأن تُحدث فرقاً حقيقياً في مسار التعددية السياسية الأردنية.
نحن أمام لحظة الحقيقة في مسار التجربة الحزبية الأردنية، إنها لحظة الانتقال من التأسيس إلى البناء ومراكمة الإنجاز، ومن الدعم الخارجي إلى المسؤولية الذاتية.