حفريات في قشرة الحداثة الحزبية
د. اسامة تليلان
06-07-2025 11:39 AM
* "متلازمة الدمقرطة والخوف منها"
في الوقت الذي ترفع فيه الأحزاب في السياق العربي شعارات الحداثة، وتُسوّق "الدمقرطة" كسلعة للاستهلاك الخارجي في سوق سياسي راكد، تولد ما يمكن أن نسميه بـ"متلازمة الدمقرطة والخوف منها". كظاهرة حزبية هجينة، يعيش فيها الحزب بين ادّعاء التجدد وبين رهاب الدمقرطة، بين التباهي بالمفاهيم الحداثية، والانغلاق على ممارسات سلطوية فردية وشللية.
الدمقرطة ليست كلمات وإنما ممارسة تبدأ حين يُسأل المسؤول، ويُحاسب المتصدر، إلا أن الأحزاب الصورية (وهي كثيرة في عالمنا العربي) تخاف من الدمقرطة لأنها تخاف من الحقيقة، تخشى أن تكشف حجم الزيف الداخلي ، وأن تُعري النقاشات الحقيقية طبيعة البُنى الخاملة، وأن يُظهِر الانفتاح غياب المشروع وهشاشة فكرة الحداثة.
في هذا السياق، يقول عبد الله العروي: "الحداثة ليست لباسا نرتديه وقت الحاجة، إنها موقف وجودي".
لكن أحزابنا تبنّت من الحداثة خطابها التبريري وتركت جوهرها التحويلي، واكتفت بمصطلحات "المأسسة، الشفافية، التداول" كديكور لفظي يخفي تحالفات شخصية، واصطفافات مصلحية، وهياكل هجينة تتحرك بالتبعية وليس بالكفاءة.
لقد أصبحنا أمام ظاهرة حزبية ما بعد حداثية بمعناها الساخر أحزاب تبدو حداثية في كل شيء، لكنها تخاف من الحداثة الفعلية في كل شيء، وداخل هذه الأحزاب، يتكاثر عضو سياسي جديد حداثي ظاهري، يتقن الحديث عن الديمقراطية، لكنه يرتعد منها، يكتب عن الحرية لكنه يُقصي كل مخالف يندد بالسلطوية.
لقد عبّر طه عبد الرحمن عن هذا التناقض حين فرّق بين الحداثة الحقة والحداثة المستلبة، مؤكد أن الحداثة تبدأ حين تشتبك مع ذاتك، لا حين تُجمّلها.
إن الخوف من الدمقرطة هو تجل لخوف أعمق، خوف من الانكشاف الداخلي، من طرح الأسئلة الكبرى من يقرر؟ من يُحاسب؟ من يملك أدوات التأثير؟ ولإنها تُجبر النخب الشكلية على مغادرة مناطق راحتها، وتُلزم القيادات أن تواجه الامتحان وليس أن تُشرف عليه.
وحين نتأمل في بنية معظم الأحزاب نرى أنها عاجزة عن إنتاج تيارات فكرية داخلية، لإنها ببساطة لا تحتمل التعدد بل تشخّصه كتهديد، لذلك تتعامل مع الاختلاف كما يتعامل الجسد مع الفيروس بالمقاومة والطرد، والمفارقة أن هذه الأحزاب تدّعي أنها تسعى الى بناء دولة ديمقراطية تعددية وهي عاجزة عن تنظيم اجتماع داخلي دون إملاء أو مقاطعة.
لقد اعتبر المفكر الفرنسي ألان تورين، أن الحداثة الحقة هي في القدرة على "إعادة إنتاج الذات ضمن معايير أخلاقية ومعرفية جديدة". لكنّ الأحزاب في واقعنا تُعيد إنتاج فشلها ضمن نفس القوالب القديمة، ثم تتساءل ببراءة، لماذا لا نكبر؟ لماذا لا نُقنع الشارع؟
لا تحتاج الأحزاب إلى مزيد من الخطابات والبيانات بقدر ما تحتاج إلى الصدق مع الذات قبل الخارج، الصدق الذي يقول: نعم، نحن متأخرون. نعم، نحن نخشى الدمقرطة، لذلك نحتاج الى صدق وإرادة أكبر تؤدي إلى قطيعة وليس الى محاولات تجميل خارجي.
الحداثة، في جوهرها، هي لحظة نقد للذات، هي مشروع تجدد داخلي وليست ميدان خطابات وشعا رات وبيانات خارجي، والدمقرطة هي بمثابة فتح الأبواب الداخلية للقرارات المشتركة والتغيير من داخل الجماعة نفسها.
وإذا كانت الأحزاب تخاف من ممارسة الديمقراطية داخل جدرانها، فكيف ستُقنع الناس بها خارجها؟ والسؤال هنا ماذا تبقى من الحداثة غير لافتة على باب مغلق؟