أولويةُ التعليم التّقنيّ في الأُردن: رؤيةٌ مَلكيَّة وخطوات عمليَّة
د. ناجي القبيلات
09-07-2025 10:38 PM
تأتي أَولويةُ التعليم التّقنيّ في المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة انعكاسًا للرؤية المَلكيَّة الحَصيفة، التي عبَّرَ عنها جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين في الورقة النقاشية السَّابعة، التي عُنِيَت برفع قدرات الكوادر البشرية وإِعدادها لتكونَ مؤهلةً لسوق العمل، حيثُ أَوجبتْ أَهمية التركيز على التعليم التّقنيّ أَو المهنيّ وتحديثه بما ينسجم مع احتياجات الاقتصاد الوطني، ويُقلّصُ نسبةَ البطالة بين الشباب.
وتعكسُ الإِجراءات الهيكليَّة الأَخيرة بشكل جَلِيّ اهتمامَ الدولة الأُردنيَّة بالتعليم التّقنيّ في خطوة عملية تَمَثَّلَتْ بِدمج وزارتيّ التربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي، وإِلحاق هيئة تنمية وتطوير المهارات بهما ضمن جسدٍ واحد يتمثَّل بوزارة التعليم والموارد البشريَّة، فَضلًا عَن استحداث منصب أَمين عام مُختَصّ بالتعليم المهنيّ لِتُرسِّخ الوزارة بِهذا التَّوجُّه خُطوةً استراتيجيَّةً فاعِلَةً في تحقيقِ الرُّؤية المَلكيَّة الهادِفة إِلى تحديث التعليم العام والعالي؛ ليتواءم مع متطلبات سوق العمل المَحليّ، ويُعَزِّز من تَنافُسيَّة الكفاءات الأردنية إقليميًا ودوليًا، ويُفضي هذا التعيين إلى رسالة قوية نحو دعم التعليم التّقنيّ وتطويره، من خلال إِفْرادِ قيادة تنفيذيَّة عُليا ترعى شؤونَهُ وتُرسِّخ مكانتَهُ كَمَسارٍ وطنيّ استراتيجيّ حَتْمِيّ؛ لمعالجةِ تدَنِّي أَعداد خِرِّيجي التعليم المهنيّ والتّقنيّ في الأردن، حيثُ تُشيرُ الإِحصاءات التقديريَّة إِلى أَنَّ نِسبهم ما زالت في حدود 15%؛ وعليه، تُعَدُّ زيادةُ هذه النسبة نجاحًا أَساسًا في تحقيقِ التنمية المُستدامَة، وتقليلِ مُعدَّلات البَطالة التي بلغت 21.3% في الرُّبع الأول من عام 2025.
انسياقًا مع الرؤى المَلكيَّة السَّامية وتجسيدًا لها؛ صدرتْ الإِرادَة المَلكيَّة بإنشاء كُلِّيَّة مأدبا التّقنيَّة في لواء ذيبان إِقرارًا إِضافيًا نحو خُطىً فِعليَّة في مسيرة التعليم التّقنيّ الأُردنيّ، وَحَظِيتْ المُبادرة بِترحيبٍ مُجتمَعيٍّ واسع، عَزَّزهُ تأكيد جامعة البلقاء التطبيقيَّة -الجهة الأكاديمية المُشْرِفة على تأسيس الكُلِّيَّة- توطين تخصُّصات تفتح آفاقًا واسعةً أمام شباب المُحافظة خاصَّةً والوطن بِعُمومه، وعبَّرَ رئيسُ الجامعةِ الأستاذ الدكتور أحمد فخري العجلوني عن أهميَّةِ إِنشاء هذه الكُلِّيَّة -بِبُعْدِها التّقنيّ الحَداثيّ- تنفيذًا للأوامر المَلكيَّة السَّامية؛ لتلبيةِ مُتطلَّبات التنمية المَحلِّيَّة وترجمتها إلى واقع ملموس، إِذ نالتْ هذه الخطَّة تأييد مُمَثِّلي المُجتمع المَحلِّيّ من نُوَّاب وأعضاء مجلس اللامركزيَّة في مُحافظة مأدبا.
وَتتجلَّى أَهميَّةُ التَّعليم التّقنيّ بشكل واضح في ظِلِّ التَّوجيهات المَلكية الحكيمة، معززةً بمتابعة سمو وليّ العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي ما فتئ يؤكد أَنَّ التحديث الأَكاديمي ينطلق من بوّابة دمج أَدوات التّقانة الحديثة، ولا سيما الذكاء الاصطناعيّ في المنظومة التعليمية ارتقاءً بجودة مخرجاتها. وتُعدُّ جامعة الحسين التقنيَّة أُنموذجًا وطنيًا يُحتذى به في هذا المجال؛ حيثُ أَطلقت مؤخرًا العديد من المبادرات الرائدة لتطوير برامجها التقنيَّة والهندسية، من خلال دمج الذكاء الاصطناعيّ في الخطط الدراسية والمشاريع التطبيقيَّة؛ ليسهم بفاعلية في إِعداد كوادر تقنيَّة مؤهلة قادرة على المنافسة إِقليميًا ودوليًا. وبكل تأَكيد، خَطتْ الجامعات الأُردنيَّة الأُخرى خطوات ملموسة في هذا المسار الحداثيّ، ويبرز ذلك بوضوح في جهود جامعة البلقاء التطبيقيَّة، والجامعة الأردنيَّة وغيرهما من الجامعات الرسميَّة والخاصَّة، التي تسعى جميعها إِلى تعزيز إِدماج التّقانة الحديثة بالتعليم التّقنيّ؛ مواكبةً لمتطلبات العصر، وتلبيةً لحاجات سوق العمل.
واليوم بات حتميًا أَن تتجهَ المؤسسات الأكاديمية في الأردن نحو دمجٍ حقيقيّ للذكاء الاصطناعيّ في العملية التعليميَّة والتدريبيَّة، وأَلَّا يقتصر ذلك على إِدراج مساقاتٍ تعريفيَّة أَو نظريات عامة، بل يتعدَّاه إِلى إِعادة تصميم برامجها الأَكاديميَّة لتشمل مشاريع عمليَّة تُوظِّف الذكاء الاصطناعيّ في حلِّ المشكلات الصناعيَّة، والهندسيَّة، والطبيَّة والزراعيَّة، وترتقي بالعلوم الإِنسانيَّة، إِلى جانب تطوير مختبرات مُحاكاة ذكية تُفسح المجال للطلبة اختبار النماذج التقنيّة عمليًا، والشراكة مع القطاع الخاص ومراكز الابتكار العالميَّة لتمكينهم من تصميم تطبيقات ومنتجات ذكية قابلة للتسويق محليًا وإِقليميًا.
وعليه، أَصبح أَمرًا إِجرائيًا أَن تُبادر وزارة التعليم والموارد البشريَّة الجديدة إِلى صياغة إِطار وطني للتعليم التّقنيّ الذكي، يُحدد مهارات المستقبل المطلوبة، ويُوجّه الجامعات وكُليَّات المجتمع نحو توظيف أَدوات الذكاء الاصطناعيّ في بناء مهارات القوى البشريّة، مثل: تحليل البيانات الضخمة، وإنترنت الأَشياء، والتصنيع الذكي، بما يضمن أَن يكون دمج الذكاء الاصطناعيّ دمجًا وظيفيًا إِنتاجيًا يرفع من جاهزيتهم ويجعلهم روادًا للتغيير التّقنيّ الذكي لا مجرد مستهلكين له، وهذا يستدعي ضرورة البدء بعملية الدمج مبكرًا في المدارس الأُردنيَّة للتعليم الأَساسي، وإِدراج وحدات تعليميَّة عمليَّة عِمادها أَساسيات الذكاء الاصطناعيّ والبرمجة والروبوتات، وعدم اقتصارها على مسارات التعليم المهني (BTEC) -الخُطوة الطليعيَّة- في المراحل الثانوية، إِضافة إِلى تدريب المعلمين لكل المراحل على أَحدث أَدوات التّقانة الحديثة؛ ليكون التعليمُ المدرسيّ قاعدةً صلبة تُهيئ الطلبة للتعليم التّقنيّ العالي، ولتربية جيل واعٍ ومتفاعلٍ مع التكنولوجيا الذكية، منتج لها، وقادر على قيادتها وتطويرها مستقبلًا.
najimq1@yahoo.com