القيادات الحزبية ومأزق الفارق
د. اسامة تليلان
26-07-2025 12:53 PM
في التجارب الحزبية المعاصرة، يشكل النقاش الداخلي أحد أبرز أدوات التصحيح الذاتي واستبصار المسارات الممكنة للتطور. ومع ذلك، تستمر ظاهرة التباس الفارق بين النقاش الهادف وإثارة الخلافات في إرباك كثير من القيادات الحزبية وبالذات المستجدة، وكذلك في السياقات التي لم تترسخ فيها ثقافة العمل المؤسسي بعمق. إذ يُنظر غالبا إلى الخلاف بوصفه مقدّمة للأستهداف أو للخلاف كهدف وليس بوصفه عنصرا اساسيا لاثراء العمل وصحة الحزب وتجدده.
هذا المأزق في الفهم يعكس بنية مركبة تتداخل فيها العديد من العوامل من أنماط القيادة والتكوين النفسي لأصحاب القرار إلى البيئة السياسية والاجتماعية التي تشكّل الإطار المرجعي لسلوك الحزب. ففي البيئات التي يسودها القلق أو تلك التي لم تُربّ أجيالها على التعدد والجدل، ينظر الى الصمت كفضيلة.
وفي هذه الحالة، من الطبيعي أن تتحول القطيعة بين القيادة والنقاش إلى مأزق فعلي حين يتم اخضاع النقاشات الداخلية لمنطق الشك، ويُحمَّل الرأي المخالف فوق طاقته، باعتباره محاولة مستترة للتمرد. وغالبا ما يترافق ذلك مع هشاشة ثقافة العمل العام، حيث تبرز الشخصنة بوصفها الإطار الأوحد لفهم العلاقة داخل الحزب.
وتتفاقم هذه الإشكالية عندما تكون السيرة الذاتية لبعض الكوادر القيادية فقيرة من حيث التدرّج المؤسسي والخبرة الفعلية في العمل الحزبي، إذ تميل الشخصيات حديثة العهد بهذا العمل الى ردود أفعال عاطفية، يصعب معها التمييز بين الخلاف الشخصي والنقاش الخلّاق حول مسائل جوهرية تتعلق بالهيكل، أو النظام الداخلي، أو آليات صناعة القرار. وفي غياب هذه الخبرات، تفقد أدوات التحليل السياسي عمقها، ويُفهم التباين في الرأي بوصفه تشكيكا واثارة للخلافات.
ولعل المفارقة أن تجارب حزبية راسخة، مثل حزب العمال البريطاني أو الحزب الديمقراطي الأمريكي، استطاعت أن تستوعب التيارات المختلفة داخل بنيتها لإنها لا ترى في التعدد خطر، بل رصيدا يثري خطابها ويُكسبها مرونة تكتيكية، دون أن تفقد بوصلتها. إذ يُدار الخلاف داخلها بأدوات مؤسسية واضحة، تبدأ من اللوائح، ومن ثقافة عامة تُدرّب أعضائها على التعامل مع الرأي الآخر بوصفه جزءا من الحل وليس المشكلة.
في المقابل، فشلت كثير من الأحزاب في منطقتنا في التأسيس لبيئة نقاش وحوار داخلي متوازن، ما جعلها عرضة الى الأسوأ، ففي غياب النقاش، لا يُنتج الحزب إلا تكرار ذاته، ويفقد القدرة على تجديد أدواته، والأهم انه يجرم التعدد والاختلاف في الراي داخل الحزب مما يعيد إنتاج نمط أو شكلا من اشكال السلطوية داخل الحزب ذاته.
وما ينتج عن هذا التداخل هو مشهد حزبي مثقل بالتوجس، يفقد فيه الحزب دوره كفضاء حيوي للتفكير والمساءلة، ويتحول إلى كيان إداري لا يتقن إلا فن إدارة الحشود وبالوقت نفسه يعجز عن إدارة الاختلاف.