يعتبر الذكاء الاصطناعي اليوم قاطرة المستقبل و معول التنمية القادمة لذلك نجد استثمارات هائلة في هذا المجال و برأيي ان دولتي الامارات و السعودية تحملان الراية في هذا المجال مع محاولات جادة من الاردن و مصر ضمن امكانياتهما. لكن الذكاء الاصطناعي الية تغيب عنها الروح و المضمون الانساني مما دفع بالعديد من المفكرين و الاستراتيجيين للتخوف من تغوله على الفرد و تهميش الدور و فرص العمل البشريه مع الوقت.

البصائر السلوكية هي علم حديث ما زال في مرحلة الطفولة يستقي من علوم الدماغ و الاعصاب و من علوم السلوك و علم الاجتماع و علم النفس و تكمن اهميته في فهم آلية التفكير و السلوك البشري لاحداث تغيير ايجابي طوعي ساشرح عنه بالتفصيل في هذا المقال.

تعتبر دولة الامارات و تحديدا مؤسسة محمد بن راشد للإدارة الحكومية الرائدة في منطقتنا في هذا المجال و الذي لم يتحدد شكله النهائي و لكنه برأيي سيمثل حاجة عالمية قادمة تجسر الهوة بين الذكاء الاصطناعي كعلم و تطبيق و بين الحاجة لانسنة الذكاء الاصطناعي بحيث ستمثل البصائر السلوكية الروح و المضمون للذكاء الاصطناعي.

في عدة حوارات لي مع احد اهم الخبراء في هذا المجال د. صالح الحموري فهو يرى ان تطوير البصائر السلوكية و تطبيقها يتوافق مع رؤية القيادة الاماراتية لتكون الامارات رافعة و منصة للتنمية في المنطقة للمساعدة في احداث تغيير ايجابي ينعكس على حياة الافراد داخل الدولة و في المنطقة العربية كبديل للصراعات التي تعطل التنمية و تفسد المزاج الشعبي.

و في نقاشات لي مع بعض المهتمين وجدت ان السعودية ايضا تسعى في نفس الاتجاه و بالتاكيد ان دول خليجية اخرى لها نفس التوجه لكن لم تتح لي الفرصة للاطلاع على ذلك.

لذلك فانني اكتب هذا المقال للتعريف بالبصائر السلوكية آملا بتعاون الخبرات الاردنية و الخليجية و خصوصا الإمارات للمساهمة في هذا العلم لما له من فوائد انسانية و تنموية و استثمارية مستقبلية فهذه قاطرة جديدة للتنمية و تغيير حياة الناس للافضل و لفعالية اعلى في العمل و ترشيد في الاستهلاك و توجيه للسياسات المجتمعية لخلق بيئة انسانية جاذبة للشباب و التسامح و قبول الاخر و الانتماء و الحفاظ على الممتلكات العامة لا بل يمتد تأثيره ليشمل تنشئة الابناء باعتبار ان الاهل يكتبون البرنامج الذي سيعيش فيه الطفل حياته و لذلك فهي فرصة لغرس القيم العليا من النجاح و الانجاز و التفكير الايجابي و العطاء.

البصائر السلوكية (behavioral insights) تقوم على تغيير برمجة العقل الباطن للافراد و المجموعات لاحداث تغيير ايجابي طوعي خفي قائم على التحفيز من خلال المعرفة العلمية الحديثة. بالتالي فإن كل مؤسسة او فرد يستطيع تحديد الاهداف التي يرغب مثل ترشيد الاستهلاك او رفع كفاءة العاملين و انضباطهم و إتقانهم للعمل أو رفع رضى العاملين و المتعاملين او زيادة التزام الجمهور بالأنظمة و التعليمات بآلية طوعية محفزة و يمتد ايضا الى تغيير الفرد جزء من عاداته الى سلوك اكثر ايجابية و تكيف مع الحياة المعاصرة و متطلباتها.

العقل الباطن مسؤول عن ما يزيد عن 95 بالمئة من حياتنا اليومية و يصدرها على شكل انماط و عادات نكررها يوميا و بالتالي فالعقل الباطن هو من يشكل من نحن بالية التفكير و الاعتقاد و العواطف و ادارة المشاعر و السلوك و تنمية المهارات لنطبقها بشكل تلقائي فعال لا نشعر به.

الامثلة على دور العقل الباطن لا تنتهي و منها قيادة المركبة دون الحاجة للتفكير و التركيز فيجد الفرد نفسه وصل وجهته دون ان يقطع اشارة او يتجاوز سرعة و دون ان يتذكر تفاصيل الرحلة لان العقل الباطن هو من قام بالقيادة. امثلة اخرى اننا نختار نفس الكرسي او المكان في البيت او الاجتماعات او نكرر الذهاب لنفس المقهى او المطعم كل ذلك من اختيار العقل الباطن. يحدث احيانا ان نرتاح او ان ننقبض عند دخول مكان جديد فمن حدد ذلك انها برمجة العقل الباطن. التوتر و القلق عند البعض عند ركوب مصعد او اجراء صورة رنين مغناطيسي او التحدث الى الجمهور بالرغم انها احداث محايدة عند الاخرين هو ايضا برمجة العقل الباطن باحداث ربط و اشتراط (بافلوف) لحدث محايد مع ذكرى او تجربة سلبية. نسلك نفس الطريق للعمل و نرتاح لبعض الوجوه و البعض يميل لسورات من الغضب المكتوم او الظاهر من الازدحام المروري او القيادة برعونة كل ذلك برمجة عقل باطن. كم من الأطفال الأذكياء الذين يكررون الفشل و الشعور بعدم الكفاءة ليس لغياب القدرات و لكن لبرمجة خاطئه من الاهل بدون قصد. بما ان الامثلة لا تنتهي فانني الخص اننا ما نكرر فعله يوميا على مستوى التفكير و السلوك و ادارة المشاعر وفق برمجة عقلنا الباطن.

بما ان الابحاث العلمية اجمعت على مرونة الدماغ (neuro-elasticity) اي قدرة الدماغ على تشكيل سيالات و تشابكات عصبية و توازن كيميائي جديد فان البرمجة الدماغية قابلة للتعديل سواءا للافضل او للاحسن لتحل عادات محل عادات على مستوى الفرد و المجتمع. لذلك فإن السعادة قرار و الالتزام و اتقان العمل قرار و حب الوطن و الحفاظ على الممتلكات و العطاء و التسامح قرار و كذلك النجاح و الانجاز و التغيير الايجابي هو ايضا قرار يتخذه فرد او مؤسسة حسب الجمهور المستهدف الفرد او العاملين او المتعاملين.

برمجة العقل الباطن و هي جوهر البصائر السلوكية تعتمد على المعرفة و التطبيق العلمي الحقيقي و استبعاد الكثير من المفاهيم الخاطئة التي عممتها وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسميات خبراء التطوير الذاتي و مدربين الحياة. قد يكون اخطر هذه المفاهيم الخاطئة برأيي مصطلح انتشر بين الشباب كالنار في الهشيم يدعى (اتبع شغفك) و التي زيفت المفهوم ليكون فقط قبول الوظيفة التي تحب في حين ان الحقيقة في ان الشغف متعدد و متغير مع العمر و لا يتناقض مع الوظائف التي يتميز فيها و تؤمن له امان مادي بحيث سيجد الشاب ان شغفه الحقيقي في الانجاز و التطوير الذاتي في مهنته و في التقدير الاجتماعي من تطوير ذاته و خدمة المجتمع لحياة اسهل و افضل.

الموضوع يطول لكنني حاولت اعطاء مقدمة لقناعتي ان البصائر السلوكية علم يتشكل سيمثل حاجة انسانية تمثل روح و جوهر الذكاء الاصطناعي و قادر على مساعدة الافراد و المؤسسات لتغيير سلوكهم لنموذج افضل اكثر ايجابية و عطاء و اتقان.