العدالة التربوية بين النص والواقع: حين تتحول النوايا الإصلاحية إلى مفارقة فكرية ..
محمد حسن المومني
21-10-2025 05:18 PM
يعود الجدل بين الحين والآخر حول موقع المنظومة الإسلامية في توجيه السلوك التربوي ومفهوم العدالة داخل مؤسساتنا التعليمية. وتذهب بعض الطروحات المعاصرة إلى أن العودة إلى النموذج التربوي الإسلامي هي الحل الأمثل لمعالجة مظاهر الانحراف أو العنف الطلابي، معتبرة أن العقوبات الإدارية أو القانونية تمثل انقطاعا عن روح الإصلاح التي جاءت بها الشريعة.
غير أن هذا النوع من الخطاب، رغم وجاهة نياته، يحمل في طياته مفارقات فكرية ومنهجية تستحق التوقف عندها. فهو ينطلق من تسليم ضمني بأن المنظومة الأخلاقية الإسلامية تحتاج إلى إثبات أو استدعاء، بينما الحقيقة أنها ثابتة بذاتها، جاءت عامة لتحقيق مصالح مجتمعية وحماية السلم الاجتماعي ضمن بيئة ثقافية وتاريخية محددة، استندت في تنظيم شؤونها الاجتماعية والاقتصادية إلى العرف والواقع، لا إلى التجريد التاريخي أو الإسقاط الزمني.
ومن هنا، فإن مقاربة السلوك الطلابي أو الجامعي بمنظور العقوبة الإصلاحية الإسلامية دون قراءة متعمقة للسياق الاجتماعي الحديث، قد تتحول إلى اجتهاد رومانسي يغفل أن الشريعة نفسها بنيت على قاعدة المصلحة المتجددة لا المصلحة الموروثة. فكما أن النص ثابت، فإن مناط تطبيقه متحرك، يتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا من جوهر فقه الشريعة لا من خروج عليه.
أما في الواقع المعاصر، فإن احترام القانون أصبح المنظومة الأهم في تحقيق السلم المجتمعي، وهو الذي يقوم عليه العقد الاجتماعي الحديث في عالم متشابك اقتصاديا وثقافيا. فالقانون هنا ليس خصما للأخلاق، بل إطارها المنظم، وضمانتها العملية ضد المزاجية والانتقائية.
فالجامعة مثلا، بوصفها مؤسسة قانونية، لا يمكن أن تتعامل مع التجاوزات بوصفها مجالا للاجتهاد الأخلاقي الفردي، بل من خلال نظام يضمن العدالة للجميع، ويحمي حق التعليم من العبث، وحق الطالب من التعسف في آن واحد.
ومن الخطأ النظر إلى الدعوة لتطبيق "العدالة الإصلاحية" خارج إطار النظام الجامعي باعتبارها بديلا عن القانون، إذ إن الإسلام نفسه احترم المنظومات القائمة وتعامل معها بروح الحكمة والمصلحة، لا بالمواجهة أو الانعزال. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يهدم الأعراف، بل أعاد ترتيبها بما يحقق مقاصد العدل والرحمة، فجمع بين الواقعية والمبدأ.
إن الإشكالية الجوهرية ليست في المبدأ الإصلاحي ذاته، بل في آلية تفعيله داخل بنية الدولة الحديثة. فالعقوبة الإصلاحية يمكن أن تكون خيارا مطروحا ضمن إطار مؤسسي واضح، من خلال خدمات مجتمعية أو برامج تأهيل تربوي، لكن لا على حساب هيبة القانون، ولا كبديل عاطفي عنه.
وهنا يتعين التذكير بأن العدالة في مفهومها الإسلامي لا تنفصل عن المنهج المؤسسي، فهي تبدأ من فكرة أن “السلطان ظل الله في الأرض”، أي أن العدالة لا تمارس بالنية الحسنة وحدها، بل عبر مؤسسات عادلة ونظم واضحة.
لقد آن الأوان لتجاوز الثنائية الزائفة بين “العدالة الإسلامية” و“العدالة القانونية”، فالفكر الإسلامي الأصيل لا يعارض القانون بل يرشده، ولا يلغيه بل يهذبه. وما تحتاجه مؤسساتنا التعليمية ليس العودة إلى الماضي، بل تفعيل روح الشريعة في الحاضر: الحكمة، الرحمة، والمسؤولية.
فالرحمة لا تكون خارج القانون، بل من خلاله؛ والإصلاح لا يستدعى من التاريخ، بل يبنى من الواقع؛ والعدالة الحقيقية هي التي توازن بين النظام والمغفرة، بين الحزم والرحمة، بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.