facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حين تصبح النظافة قضية وطن


د. محمد القضاة
22-12-2025 09:12 AM

حين أعلن سموّ وليّ العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني أن عام 2026 سيكون عام النظافة، لم يكن ذلك ترفًا لغويًا ولا شعارًا عابرًا، بل جاء بعد أن بلغ الأمر منتهاهُ، وبعد أن صار التهاون في نظافة المكان العام مشهدًا مقلقًا يستدعي الوقوف الحازم. فالرسائل الكبرى لا تُطلق عبثًا، وإنما تُقال حين يصبح الصمت تقصيرًا، ويغدو التنبيه واجبًا وطنِيًا لا يحتمل التأجيلَ.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الجامعة الأردنية ناقشت هذا الموضوع قبل أقل من شهرٍ، في حوارٍ أكاديمي مسؤول أكّد أن النظافة ليست إجراءً شكليًّا ولا واجبًا إداريًّا، بل هي السلوك الحضاري الحقيقي للطالب الجامعي، وعنوان وعيه، ودليل انتمائه للمكان الذي يتعلم فيه ويصنع مستقبله بين جدرانهِ.

والنظافة، في جوهرها العميق، ليست مسألة خدماتٍ ولا حملاتٍ موسميةٍ، بل سلوكٌ إنسانيٌّ راسخٌ يبدأ من الداخل قبل أن يظهر في الشارعِ. ولهذا ارتبط مفهوم الطهارة في الوعي الإيماني بالقيمة والمعنى، حين قال الله تعالى إنه يحب المتطهرين، فجعل الطهارة موضعَ محبةٍ إلهية قبل أن تكون مظهَرًا خارجيًّا. وجاء الحديث النبوي الشريف ليضعها في صميم الإيمان لا على هامشه، حين قيل إن الطهور شطر الإيمان، تأكيدًا على أن نظافة الجسد والمكان انعكاسٌ مباشر لنظافة الضمير والوعيِ.

ومن هنا، فإن الحديث عن النظافة في المدارس والجامعات ليس حديثًا عن مرافق وجدران، بل عن الإنسان الذي يسكنها. فالمكان، مهما ازدان وتأنّق، يبقى مرآةً صادقةً لسلوكٍ من يمرّ فيه. وقد عبّرت الشعوب عن هذه الحقيقة منذ القدم بأمثالٍ بالغة الدلالة، فقالوا: "النظافة عنوان الحضارة"،و "كما تزرع تحصد". والسلوك الذي يُغرس في الصغر هو ما نحصد ثماره في الكِبرِ، في الشارع، وفي الحرم الجامعي، وفي كل فضاءٍ عامٍّ.

والحقيقة التي لا يجوز الالتفاف عليها أن النظافة لا تُصنع فجأةً، ولا تُفرض في عمرٍ متأخرٍ. إنها تبدأ من البيت، حيث يتعلّم الطفل احترام المكان، ثم تتكرّس في المدرسة، قبل أن تُختبر بوضوح في الجامعةِ. وحين يصل الشاب إلى الجامعة، فإنه لا يأتي صفحةً بيضاء، بل يحمل معه تاريخه التربوي كاملاً؛ ولذلك فإن العبث بالمكان العام ليس سلوكًا عابرًا، بل نتيجة مسارٍ طويلٍ من الغياب أو التهاونِ.

غير أن هذا الفهم العميق لطبيعة السلوك لا يعني إعفاء المؤسسات من مسؤولياتها. فالمسؤولية لا تقع على المدارس والجامعات وحدها، بل هي مسؤولية وطنية شاملة، تتقاسمها البلديات، وأمانة عمّان الكبرى، وسائر الجهات المعنية، ويواكبها جهدٌ إعلاميٌّ وطنيٌّ واعٍ، يعيد للنظافة مكانتها في الوعي العام، لا بوصفها واجبًا قسريًّا، بل قيمةً مشتركةً وسلوكًا حضاريًّا. وقد أثبتت دراسات عالمية في علم الاجتماع الحضري أن نظافة الفضاء العام ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى احترام القانون، وأن المجتمعات التي تهمل محيطها العام تكون أكثر عرضة للفوضى، بينما ينعكس النظام والنظافة إيجابًا على الصحة النفسية والانتماء المجتمعيِّ.

ومع ذلك، فإن الوعي وحده لا يكفي. فلا بد، إلى جانب التربية والإعلام، من فرض القانون وتطبيقه بحزم وعدالة وشفافيةٍ. فالقانون ليس نقيض الوعي، بل حارسه وسندهُ. وحين تُهمل القوانين أو تُطبّق بانتقائية، تتحول الفوضى إلى سلوكٍ مألوفٍ، ويغدو الاعتداء على المكان العام أمرًا عادِيًا. لذلك، فإن العودة الجادة إلى ثقافة النظافة تستلزم وضوح التشريعات، وعدالة التنفيذ، حتى يدرك الجميع أن للمكان العام حرمةً لا يجوز التعدّي عليها.

وليس استدعاء صورة عمّان، التي كانت يومًا من أنظف العواصم وأجملها، حنينًا إلى الماضي بقدر ما هو تذكير بما نحن قادرون على استعادته. فالأرض التي صَلُحت يومًا قادرة على أن تصلح من جديد، إذا ما عُنيّا بالعناية بالمكان والحرص عليه، واستعدنا المعنى الحقيقي لعمارة المكان. والنبي ﷺ حين جعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة، إنما كان يؤسس لثقافةٍ مدنيةٍ راقيةٍ، ترى في العناية بالطريق عبادةً، وفي احترام المكان قيمةً إنسانيةً ساميةً.

أن تعود عمّان نظيفة جميلة، وأن تستعيد مدننا وقرانا ومناطقنا السياحية بهاءها، وأن تكون مدارسنا وجامعاتنا انموذجًا يُحتذى، هو هدفٌ لا يتحقق بالقرارات وحدها، بل بمشاركة كل إنسان. فالنظافة لا تبدأ من الشارع، بل من الإنسان ذاته؛ من إحساسه بأن الوطن بيته الكبير، وأن الشارع غرفته المفتوحة، وأن مكان العمل والغرفة الصفية امتداد لحيّزه الخاصِّ.

وحين نعيد تعريف الوطن بهذه الروح، يصبح الحفاظ عليه فعلاً يوميًا بسيطًا في شكله، عميقًا في أثره. عندها فقط، لا يكون عام النظافة شعارًا عابرًا، بل نقطة تحوّل حقيقية، نستعيد بها صورة المكان، ونحفظ بها كرامة الإنسان، ونؤكد أن الأوطان الجميلة لا تُبنى بالحجارة وحدها، بل بالسلوك النظيف، والوعي الحيّ، والقانون العادل.

وفي الختام يطيب لي أن اعبر عن أسمى آيات الشكر والتقدير لسموّ ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، على صرخته المدوّية واهتمامه الصادق الذي أعاد لقضية النظافة مكانتها وقيمتها، وجعلها قضية وطنية تلهم الجميع لتحمل المسؤولية والمساهمة بوعي ومحبة في بناء وطن نظيف وجميل. فلتكن دعوته مشعلاً يضيء دروب الوطن، فلنبدأ من أنفسنا، ومن بيوتنا، ومن شوارعنا، لنصنع بيئة صافية وجميلة تليق بوطننا الحبيب.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :