facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




معيد في "الأردنية" يستذكر مسيرة ناصر الدين الأسد *د. محمد شاهين


mohammad
28-07-2015 04:16 PM

الأستاذ الدكتور محمد يوسف شاهين
أستاذ شرف- الجامعة الأردنية

هذه لمحة أكتبها من الذاكرة وأنا في سفر بعيداً عن الوثائق، وهي لن توفي الرجل حقه، مهما بلغت قدرتها، وصح بيانها، فالرجل كبير في شأنه، كبير في مقامه، محيط في علمه، واسع في اطلاعه، وسيأتي اليوم قريباً، إن شاء الله، عندما يأخذ حقَّه في التقدير، ويسجل التاريخ بعضاً من مآثره، لتكون هداية تنير السبيل إلى الأجيال، وهي تتعرف على رجل عرف السبيل إلى البناء والعطاء، وضرب مثلاً في حب وطنه وأمته.
هذه إذن لمحة لا تخضع لسجل مدوّن، فأنا لا أعبأ بما تكتبه الصحف عن ناصر الدين، ولا بما يذيعه المذياع ولا بما يقدمه التلفاز عياناً؛ لا لأني أتعمد عدم إنصاف وسائل الإعلام، ولكن ليقيني أن وسائل الإعلام، تقف بطبيعتها مضطرة عند حد لا تستطيع فيه الانطلاق إلى أعماق المخبر لتنصف الرجل الذي ما زال يبهرك سحر بيانه وعمق أفكاره.
عرفت ناصر الدين، أول ما عرفته في منتصف الستينات، عندما تقدمت بطلب للعمل في الجامعة كمعيد في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وذهبت لمقابلة عميد كلية الآداب الذي كان آنذاك هو رئيس الجامعة نفسه. وما زلت أذكر ذلك اللقاء، وعجبت كيف يوحي المسؤول بكل ذلك الوقار والهيبة والجد. وبقي تعييني معلقاً بسبب التزامي في الخدمة مع التربية. وبعد عام من ذلك اللقاء، قابلت ناصر الدين بالصدفة، وسط المدينة، عندما كان للمشاة حق في الطريق، مثل ما كان للسيارات، حيث يتوقف مع عائلته للتحية، في سيارة أذكر منها صغر حجمها. وقد رجعت يومها إلى بيتي في مسقط رأسي غرب النهر تغمرني مشاعر الحنان والأمل، ويدهشني تواضع الرجل، وقوة ذاكرته، إذ تذكر القضية من ألفها إلى يائها. وعندما رويت ما حدث لبعض الزملاء فيما بعد، علمت منهم أنه، عميد كلية الآداب ورئيس الجامعة آنذاك، كان يحفظ أسماء طلبة كلية الآداب، وما زالت عرى الصداقة قائمة بينه وبين الأفواج الأولى التي كان لها الشرف أن تنهل من علمه وأدبه. وأنكر أن ما حدث كان له أكبر الأثر في إصراري على الالتحاق بالجامعة.
وعندما تيسر الأمر، وأوشك الالتزام مع التربية على الانتهاء، ذهبت ثانية لمقابلة عميد كلية الآداب، فقابلني بالقول "بلغني أنك تشد الرحال" وعندما طلبت من أستاذنا أن يفصح عن الأمر، أجابني أن مسؤولاً في وزارة التربية نسب إلي أنني في طريقي لقبول وظيفة في الخليج ويعلم الله أن العمل خارج حدود هذا البلد لم يقع في برنامج حياتي حتى هذه اللحظة. وعندما تحقق من الأمر، (وهو بالمناسبة محقق بارع) ووجد أن لا أساس من الصحة له، استكمل على الفور إجراءات التعيين، وغادرت مكتبه بعد نصف ساعة، ومعي كتاب التعيين. وأنكر أيضاً أن هذه المعاملة زادت من تعلقي بالجامعة والعمل فيها منذ ذلك الحين.
وبعد عام ذهبت في بعثة لاستكمال دراستي في بريطانيا، وبعد حوالي عامين انتهت إعارة الدكتور ناصر الدين من الجامعة العربية، وكان عليه أن يرجع إلى مقر عمله في القاهرة. وانقضت سنوات عشر حتى رجع الدكتور ناصر الدين إلى الجامعة ليرأسها ثانية. وكنت من بين العشرات الذين فرحوا بالرجوع، غير أنني لم أكن من بين المهنئين الذين ترددوا على المكتب لتقديم التهنئة لأني أمقت التهنئة في المناسبات أولاً، ولأنني كنت أعتبر أن التهنئة للجامعة. وبعد أسابيع قابلت الدكتور ناصر الدين يتمشى في حرم الجامعة، وسلمت عليه سلاماً عارضاً حاراً وفاجأني بالقول "ألست من ذلك الرعيل" وأذكر أنني اكتفيت بإجابة قصيرة لم أذكر له فيها اسمي ولا أعتقد أن تذكره، فمثلي كثر.
في رئاسته للجامعة للمرة الثانية طلب مني أن أعمل في الإدارة بجانبه، كمساعد له، اعتبرتها فرصة نادرة للتعرف على رجل هو موضع التقدير والمحبة عند كل من عرفه. وعندما قلت بتلقائية ابن الريف الجافة أنني لست معتاداً على العمل مع شخص يكون رئيساً مباشراً لي، أجاب أن العمل الجامعي لا يوجد فيه رئيس ومرؤوس، لأنه يعتمد من أوله إلى آخره على التعاون بين العاملين، وقال كلانا يعاون الآخر ويعينه.
وفي نيسان عام 1979 حل بالجامعة ما حل، حيث اجتاحت الجامعة مظاهرات طلابية تجددت يوماً بعد يوم، وكان مجلس العمداء في حالة استنفار، يجتمع كل يوم حتى ساعة متأخرة من الليل. وفي إحدى الاجتماعات اقترح عميد أن يرسل رئيس الجامعة باسم مجلس العمداء برقية إلى جلالة الملك يعرب فيها عن الولاء، وما إلى ذلك من ضروب القول، ورد عليه الدكتور ناصر بالقول: إن جلالة الملك غني عن البرقيات مثل ما هو رئيس الجامعة غني عن المزايدات، وانتهى الأمر عند ذلك الحد. وانقضت أيام على هذه الحال ورئيس الجامعة يحاور الطلاب والعمداء والمسؤولين بصبر وثبات، دون أن يحيد عن الروح الجامعية، وقد عرض على مجلس العمداء في جلساته رفضه لعرض من خارج الجامعة بدخول الشرطة. وكانت مفاجأة محزنة صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، عندما حضر إلى مكتب رئيس الجامعة عدد من الطلاب، يخبرون رئيس الجامعة أن الشرطة قد اشتبكت مع الطلاب، على مقربة من البوابة الرئيسية، وكان ذلك في حدود الساعة العاشرة، حيث كنت قد فرغت من إعطاء محاضرتي، وتوجهت بعدها إلى مبنى الرئاسة، وإذا برئيس الجامعة يقف أمام مبنى المكتبة، يحاور الطلاب ويعدهم بأن يطلب من الشرطة الابتعاد عنهم، وكان الطلاب على وشك الاشتباك مع الشرطة، عندما وصل رئيس الجامعة إلى الموقع، ولم يتحرك نحو البوابة الرئيسية، إلا بعد أن ضمن ابتعاد الطلاب عن الشرطة. وهكذا أصبح رئيس الجامعة في المنطقة المحايدة، يتلقى الحجارة الطائشة من جهة، ويستنشق الغاز المسيل للدموع من جهة أخرى. وقد هدأت الحالة نسبياً عندما وصل رئيس الجامعة إلى موقع التجمع للشرطة، أمام البوابة الرئيسية، وبعد دقائق من استنشاق الغاز، سقط ناصر الدين على الأرض، وحُمِل إلى المستشفى ليعالج من النوبة التي ألمت به. ولا ينكر أحد أن ناصر الدين حقن الدّم في قلبه، تجنباً لسفك الدماء التي كانت قاب قوسين أو أدنى. وكل من رأى المنظر أو سمع عنه تساءل: ماذا لو تأخر رئيس الجامعة دقائق عن النزول إلى ذلك الموقع؟ سمعت أحداً يقول بعد سنوات مما حدث، ربما كانت يرموكاً سبقت تلك اليرموك. هذا موقف يتحدث عن نفسه ولا داعي لأي إشادة، فالموقف المجيد فعل لا قول. بعدها تتعرف إلى ناصر الدين وهو يواجه المرض بشجاعة فيها من التحدي و الإيمان بالحياة ما يدعو إلى الإعجاب، فتراه يحافظ على روحه المرحة، ولا يعرف الشكوى والأنين، ولا يصيبه الانتكاس الذي يصيب الناس عادة عند الشعور المفاجئ بالضعف والوهن. ويحضرني في هذه المناسبة ما قالته شاعرة عراقية، في معرض سؤالها عن الدكتور: عندما يبحلق الدكتور ناصر في المرض يرعبه، ويخرجه من أول باب للهرب، وليته يقول لنا كيف يفعل ذلك!
يبدو أن الإيمان الصادق، وهذه ملاحظتي، هو الذي يبعث في النفس كل هذا الرصيد من الرضا والطمأنينة. وإلا كيف نفسر هذا الصمود الشامخ، وسط المتغيرات التي مر بها، فعندما علم مثلاً عن تكليفه بمنصب جديد، عليه أن يعد له قبل أن يظهر إلى حيز الوجود، لم يتغير عليه شيء، ولم ينل منه هذا التغير شيئاً، عندما انتقل من رئيس جامعة إلى أستاذ في قسم اللغة العربية. وتجلس معه ولا تشعر أنه افتقد شيئاً من حاشية الرئاسة ولا حتى سيارتها وسائقها. ولا أعرف أحداً يستطيع التكيف للموقف الجديد بالسرعة التي يتكيف بها ناصر الدين.
أعود إلى القول أن عملي معه عن قرب أتاح لي فرصة الاستماع إليه في مناسبات مختلفة، داخل مكتبه وخارجه. وكم كان سروري عظيماً عندما كنت ألقاه مع ضيف يستقبله، لأستمتع إلى حسن البيان وجمال المعشر. حضر محمود درويش مرة إلى مكتبه فعرض عليه أن يقدم له التسهيلات اللازمة لزيارة الأماكن الأثرية في الأردن وما زالت الكلمات التي لا أستطيع نقلها حتى بتصرف، ترّن في أذني، ولكني أذكر بعضها إذ قال له: تقف بنفسك على ترى هذا البلد الطيب، وتستنشق هواءه، وترى كيف يحتضنك، في غور أعماقه، ويسمو بك فوق قمم جباله، إلى آخر ذلك من البيان الصادق. ورد عليه محمود درويش قائلاً: أشعر أنني الآن أستنشق هواء شعرك، وربما هذا يغنيني في الوقت الحاضر عن التجوال لأن الوقت لا يسمح لي بذلك، وطلب محمود درويش منه إذنا باستعمال المدرّج لإلقاء شعره. وكل من حضر تلك الأمسية يذكر أن المدرّج عجّ بالحضور وكان رئيس الجامعة على رأس الحضور. وفي اليوم التالي علم رئيس الجامعة أن عنصراً طلابيّاً لم يسره سلوك الجمهور الذي كان غاية في التهذيب، فنظم القيام بمناسبة كان القصد منها المناكفة، وحصل على الموافقة من العميد المسؤول. حضر العميد إلى مكتب رئيس الجامعة فاستمعت إلى الأستاذ الرئيس وهو يقول للزميل العميد: تحتاج الإدارة أحياناً أو أغلب الأحيان إلى الصمود في وجه الابتزاز، وعدم الإذعان إلى المزايدة، ولكني لا أستطيع أن أحميك من المزايدة، إلا أذا حميت نفسك منها أولاً، فالإدارة حلقة متصلة لا منفصلة. وخرج العميد مقتنعاً بالقول، وأصدر أمره بإلغاء المناسبة، التي ربما كانت ستسبب بفوضى داخل الحرم الجامعي.
والذي يعرف ناصر الدين يعرف مقته الشديد للمزايدة. حضر إلى مكتبه أثناء الأزمة الطلابية نفر من الطلاب في محاولة لتبرير ما حدث من اعتداء على المعرض الذي أقامه زملاؤهم الطلبة، احتفالاً بيوم الأرض، وبعد أن استمع إليهم قال: هل تريدون الخلط بين الوطنية والغوغائية، إن كنتم تنشدون مخافة الله وحبكم لجلالة مليكنا وجده الحسين، فالسبيل إلى ذلك حبكم أو على الأقل عدم كرهكم لفلسطين العربية التي كانت وما زالت موضع حبهما. وما كان من الطالب الذي تصدر الحديث، إلا أن نهض وصافح الأستاذ الرئيس بحرارة، معبراً له عن الاحترام والتقدير، مشفوعين بالاعتذار. وربما يقول قائل إن ناصر الدين مجاملٌ من بين المجاملين، هذا صحيح إلى حد ما ول عيب في ذلك طبعاً، ولكن مجاملته تكون على حسابه الشخصي، سواء على حساب صحته أو راحته البيتية، فهو يجامل المحتاج الذي يطرق باب بيته، أو باب مكتبه في أوقات لا تكون من حق المراجعين. وأنا أعرف الكثير الكثير عن أعمال الخير التي يسديها للناس في أوقات راحته والتي أعتبرها شخصياً صدقات جارية. ولا أعلم أنه تفوه بها لأحد، وكل معرفتي بها وعنها جاءت عن طريق الصدفة المحضة. أما عن الحق العام فهو إنسان لا يعرف المجاملة عنده.
هذا مثل أضربه بعد أن شهدته شخصياً وشهدت عليه. حضر المسجل العام يوماً إلى مكتب رئيس الجامعة وقال له أن المسؤول الكبير الفلاني في البلد قد طلب منه أن يتجاهل بقدر الإمكان سرعة تلبية طلاب الضفة الغربية لتسجيلهم تمهيداً لالتحاقهم بالجامعة وأن يمهلهم فقط قرابة يوم أو بعض يوم للتسجيل وأن كل من يتخلف عن التسجيل في هذه الفترة يعتبر فاقداً لحقه في القبول. وكان هذا رد رئيس الجامعة إذ قال: هنالك من هو مسؤول أكبر منه، وهو سيد البلاد ورب العباد. ومن معرفتي الشخصية للأمر فإن هذا المسؤول الأكبر سيغضب للأمر، هذا هو ردي عليك يا سيد ... أولاً، وثانياً أن هذه الجامعة أمانة في عنقي ولا أستطيع أن أفرق بين أبناء البلد الواحد، على الأقل يجب أن نعطيهم فرصة متكافئة مع إخوانهم في هذه الضفة، إذا كنا لا نريد أن نعطيهم فرصة خاصة، تتناسب مع ظرفهم الخاص، الذي يعلم عنه العالم بأسره. أنا يا سيد .. مسؤول عن هذه الأمانة أمام رب العالمين.
وحادثة أخرى أن أستاذا في الجامعة كان على وشك السفر إلى أمريكا لعلاج بسيط وفي حاجة إلى تقرير طبي من مستشفى الجامعة من أجل شرعية الحصول على تكاليف العلاج في أمريكا. حضر ذلك الزميل إلى المكتب يطلب من رئيس الجامعة أن يوصي اللجنة الطبية في الجامعة أن "تدير بالها" ولم أعهد الدكتور ناصر في حالة غضب أو امتعاض أكثر من تلك المناسبة، حيث بدأ أولاً باستجواب بسيط: "بأي حالة تريدني أن أدخل على الخط" فأجاب الزميل "بالعشم" فصاح الدكتور ناصر: اتق الله يا رجل، والله إنني أؤثر أن أدفع تكاليف الزيارة والعلاج من جيبي الخاص عن أن أفكر في رفع سماعة التليفون لأتحدث في الأمر أي حديث. ومن قبيل الصدف طلب ذلك الزميل بعد ما يقرب من تسع سنوات من الدكتور ناصر أن يتدخل من أجل مساعدته في أمر ما يخص وضعه في الجامعة. فأجابه الدكتور ناصر وقد أصبح حينئذ وزيراً للتعليم العالي أن وزير التعليم العالي موجود للمحافظة على تطبيق قانون الجامعة وليس لخرقه. وقد ضحكت في نفسي عندما سمعت الرد بمحض الصدفة حيث تذكرت الرد السابق الذي لم ينتفع منه الزميل، ربما نسيه أو تناساه، أو ظن أن ردود الدكتور ناصر موسمية وأن صلابة موقف الأمس يمحوها الغد.
وهذه حادثة تذكر بأخرى مشابهة عندما حضر إليه أحد رجالات البلد وطلب منه إعفاء ابنته التي كانت طالبة في الجامعة من قائمة الحرمان، التي تصدر عادة في حق الطلاب الذين يتغيبون عدداً معيناً من الحاضرات مما يؤدي في النهاية إلى حرمانهم من المادة التي يسجلون فيها. "هل أستطيع أن أفعل ذلك أبا فلان؟ "وتساءل الصديق باستهجان" وهل يعجز رئيس الجامعة عن أمر بسيط مثل هذا "أجابه الدكتور ناصر نعم. رئيس الجامعة عاجز والسبب في ذلك أنه تحت القانون لا فوقه.
وأشتكى إليه مرة أستاذ في الجامعة أن أساتذة كلية الطب يتحاملون على ابنته الطالبة في تلك الكلية ورد عليه الدكتور ناصر قائلاً إذا كنت تقول في حق الذين هم من أهل بيتك مثل هذا فكيف نستطيع أن ندرأ عنهم التهم التي توجه إليهم من بعض أفراد المجتمع! وخرج الزميل من المكتب محرجاً.
هذه أمثلة قليلة أسوقها لادلل بها على الشخصية الصّلبة التي يتمتع بها ناصر الدين والتي تقف وراء سلوكه المتناسق والمتماسك، تلك الشخصية التي أصبحت معروفة للعديد من الذين أتيحت لهم فرصة اللقاء به. وعندما كان لي شرف العمل بجانبه في الجامعة كنت أخشى أن يصيبني الملل من حياة المكتب ونمط العمل المتكرر فيه. ولكن مكتب ناصر الدين غير المكاتب التي يتحكم فيها الروتين، فهو أشبه بمجالس الشيوخ القدامى، حيث كان الشيخ يؤم في مجتمعيه علماً وأدباً وحكمة، وقد أصبح مجلس ناصر الدين معروفاً لدى من استمع إلى الإمام، فالشيخ لا يحدث إلا عما يعرف جيداً، ولا يحدث إلا بما يسر المستمع، وشعاره الذي أعرفه جيداً بشّرا ولا تنفرا، ففي حديثه عذوبة اللغة، وفصاحة اللسان، ولا يخرج المرء من مجلسه إلا وقد حمل في جعبته أدباً أو علماً أو الاثنين معاً، حتى لو كان الحديث عن أمور تخص الاقتصاد أو السياسة و أذكر جيداً كيف كان مدير المالية يبتهج عند مناقشة الميزانية، في نهاية العام، حيث كان ناصر الدين يفنط أرقامه، وكأنه عالم اقتصاد، وبعدها تستقر الأرقام بعد التفنيط على جودي لم يكن في حسبان المدير المالي، الذي كان يباهي دائماً بقدرة الدكتور ناصر على ترتيبها وحسابها. وأشار المدير المالي مرة إلى مهارة الدكتور ناصر في تحويل الحساب إلى هندسة، مكتسباً على يده القدرة التطبيقية، التي لا تترك مجالاً للخوض في حسابات جانبية مشتتة.
وفي مجلس الدكتور ناصر تستمع إلى الحوار الهادئ الذي يستدرجك فيه من نقطة الصفر إلى النهاية العظمى، ولا تعرف متى قطعت هذه المسافة، أو كيف وصلت إلى تلك النهاية، وهو حوار مبني على فهم جيد للأمر، بادئ ذي بدء ولملمة لجوانبه المختلفة، والذي يعرف الدكتور ناصر يشهد له بحبه لوضوح الرؤية، انطلاقاً من أي حوار، وهو يرى ما يراه علماء اللغة المحدثون من أن عملية الحوار نفسها التي نسمها بالإنجليزية (dialogue) هي التي تقرب موضوع الحوار من صاحبه وتزيده وضوحاً ودقة وعمقاً. باختصار أعطه القليل يعطِك الكثير، نتيجة الحوار المتعمق، الذي لا يترك مجالاً للبعثرة، ونتيجة المنهج الذي يعرف لملمة التفاصيل اللازمة في الوقت المناسب، والتي من شأنها أن تبني في النهاية وحدة معرفية في أقصر فترة زمنية. هذا ما كنت ألحظه شخصياً، في جلسات العمداء، والتي يشهد عليها أعضاء المجلس، آنذاك حيث تعرض المواضيع وهي متعارضة، ومتشابكة، ومتداخلة، فيبدو الوجوم على الوجوه لمطب أو حرج على وشك الحصول، ولكن سرعان ما تصفى الأمور وتنقشع الغمامة بعد تفتيقها وتنسيقها من جديد، على يد رئيس المجلس، الذي يأخذ زمام المبادرة بالنية الحسنة أولا وبالفكرة النيرة ثانياً، كلاهما يعين الآخر بفردية متميزة هي التي تجعله كرئيس مجلس، يسمو فوق ما هو شخصي، يمكن أن يقف حجر عثرة في وجه الموضوعية التي تجمِّع، أو على رأيه "تلملم" ولا تبعثر. وقد سمعتها مراراً من أعضاء مجلس العمداء "جلسات مجلس العمداء برئاسة أبي البشر جلسات ممتعة، كم وددنا أن تطول".
وفي اجتماع اتحاد الجامعات العالمي الذي كان عقد في مانيلا عام 1980م وهو اجتماع يعقد مرة كل خمسة أعوام، كان لي شرف المرافقة، حيث صحبته كأحد المستشارين اللذين صحباه في تلك الرحلة. كان ناصر الدين في تلك الرحلة، الأخ الأكبر لجميع رؤساء الجامعات العربية، والتفوا من حوله بصورة عفوية، كأنه شيخهم أو إمامهم، يستمعون إلى مجلسه وهو يحدثهم بدعابة بريئة، وبود وصفاء، ينفذ إلى قلوبهم بتلقائية المحبة والإخاء، وقد بايعوه دون منازع على أن يكون ممثل المنطقة العربية في ذلك الاتحاد. وعندما حاول أحد أن يفسد الأمر قبل البيعة بقوله أن فلاناً كتائبياً مشيراً إلى أحد رؤساء الجامعات العربية، رد عليه الدكتور ناصر أن المعني عربي ومن المفروض أن تطغى العروبة على الطائفية، ثم سأله هل جربت أن تكون عربياً ودوداً معه وانتهى الأمر عند السؤال. وفي أثناء المؤتمر التفت الدكتور ناصر إلى أمر لم يلتفت إليه غيره من قبل. لماذا لا يكون لنا أكثر من ممثل في الهيئة التنفيذية؟ نحن كعرب نمثل شمال إفريقيا وبقية العالم العربي في المشرق. وعندما عرض الأمر على سكرتارية المؤتمر كانت القناعة تامة بأن رؤساء الجامعات العربية لهم الحق في انتخاب اثنين بدلاً من واحد، وهكذا ولأول مرة أصبح لرؤساء الجامعات العربية عضوان ممثلان لهم، بدلا من عضو واحد. ولا أنسى ما قاله سكرتير الاتحاد على مسمعي في ذلك المؤتمر من أن رئيس الجامعة الأردنية فصيح جداً وكلماته بالإنجليزية هي (most eloquent) وهي كلمات سمعتها من أكثر من زائر أجنبي حضر لمقابلة ناصر الدين في مكتبه.
ولا أريد هنا أن أطيل الحديث عن انطباعات الزوار الأجانب لمكتب أو مجلس ناصر الدين، حيث أني سأتركها إلى حديث آخر يوثق برسائلهم وأحاديثهم، ولكني أود أن أشير إلى زيارة كلينث بروكس (Cleanth Brooks) الذي يعتبر الرائد الأول في النقد الإنجليزي الجديد. في زيارة عرضية زار بروكس الدكتور ناصر الدين في المجمع الملكي دون سابق موعد أو عِلْم أحد بوجود الآخر، حيث كان بروكس في زيارة رسمية للجامعة، ولكني قدرت أن ناقداً مثل بروكس سيسر بمقابلة أديب مثل ناصر الدين، وهكذا تمت المقابلة بين الاثنين. في نهايتها قال بروكس: "هذا رجل أصيل يتحدث الإنجليزية بظرف بالغ (very elegant)، ولا يشعرك بأي تكلف، لغته معبرة دقيقة، حساسة إلى آخر حد". ثم أردف قائلاً: "إذا كان هو في الإنجليزية هكذا فكيف يكون شأنه في العربية، لا بد أنه متميز... ويشعرك عند الحديث أنه لا يرغب أن يكون غير ما هو، وهذا الأمر من علامات الأصالة". وأذكر أن بروكس قال لي هذا أكثر من مرة وفي كل مرة جرى اتصال بيننا ورد ذكر اسم الدكتور ناصر الدين.
ذكرت آنفاً كيف يأخذ الدكتور ناصر القليل ليعطي الكثير، سواء من محدّث أو كتاب أو من أي مصدر آخر. دعي إلى مؤتمر الأدب المقارن في جامعة اليرموك، حيث عقد المؤتمر برعايته وطلب منه أن يلقي كلمة حول موضوع الأسلوبية، وحين الإعداد للبحث وقعت يداه على مرجعين أو أكثر من بين المراجع العديدة المتوفرة حول هذا الموضوع. وقرأت البحث الذي قدمه، وأشهد أنه استطاع أن يتحدث عن الأسلوبية في صفحات قليلة، بفهم وعمق يغنيان القارئ عن الخوض في متاهات المراجع الطويلة، سواء ما كتب بالعربية أو بالأجنبية. وكأن الدكتور ناصر الدين لديه الموهبة للخوض في المعارك الشائكة، متحدياً وعورة الطريق، وصعوبة مسالكها، وهو في النهاية لها، حيث تجده يمهد كل طريق وعر ليصبح سبيلاً سهلاً أمام المارة من بعده. وقبل ذلك بسنوات دعي من قبل رابطة الكتاب أن يتحدث في موضوع الشعر الحديث وهو موضوع لا يروق له كثيراً. غير أنه تحدث بعقل متفتح أشعرني عندما استمعت إليه في مبنى الرابطة أنه قرأ واستوعب إليوت وباوند وأودن وغيرهم، وأنا أعلم حق العلم، أنه لم يقرأ إلا القليل القليل لهؤلاء الشعراء وغيرهم من رواد الحداثة في الغرب. وهذا ما أقصد بعطاء ناصر الدين الكثير الذي يأتي عند أخذ القليل.يذكرني الدكتور ناصر الدين هنا بما يقوله ي.م. فورستر الروائي الإنجليزي المعروف من أن الحياة على يد الفنان تكبر ويتسع مداها وتصبح رحبة شيقة متسعة في حدودها التي تتمدد إلى ما لانهاية.
وكثيراً ما كنت أناقش معه فكرة فأشعر وكأنه قرأها معي في إعلام الكتب الغربية، سواء أكانت أدبية أو نقدية أو فلسفية، وأنا متأكد أنها من عرق جبينه الفكري. ومنه تعلمت أن المرء يستطيع بموهبة الخيال أن يختصر الزمن، ويحصِّل في زمن قصير أكثر مما يحصِّل غيره في زمن طويل. وتعلمت منه أيضاً أن الذي يهبه الله خيالاً واسعاً يستطيع أن يتعايش مع عالم اللاخيال، دون أن يفقد خياله وأصالته. وفي اعتقادي أن هذا هو السلاح الذي يحمي به المرء نفسه عندما تضنيه الحقيقة المرة، للواقع السلبي، فيظل محتفظاً بقدرته الخلاّقة، التي هي موهبة من الخالق وعطاء منه، فأحياناً يمكن أن يفقد المرء ماله وعتاده، وحتى وظيفته، ولكن دون أن يسلب خياله وبيانه. هنيئاً للدكتور ناصر الدين بالرصيد الذي لا يفنى.
وبعد، فهذه عجالة قصيرة جداً، أكتبها فقط كمساهمة متواضعة في هذه المناسبة، ولا أعتقد أنها تغني عن مساهمة أكبر، سأعدّ نفسي أنا وغيري لها، كواجب قومي نحو تراث وطني يشرف كل من يكتب فيه وعنه. ويسرني أن أفاخر أن ما أكتبه هنا هو ما يعرفه الكثير ممن عرفوا ناصر الدين حتى عن بعد. وهذه أول كتابة من نوعها أكتبها عن شخص، ولولا ما فيه من سحر يجذب إليه الناس عامة لما استطعت أن أسطر هذه الكلمات، فأنا لست صحفياً ولا مؤرخاً ولا مؤلها للذات، ولكني متيم بالذات التي لا تعيش لذاتها، بل تعيش بإيمان فحواه الإنسانية قاطبة والوطنية المعهودة التي لم يساوم عليها في حياته المديدة. هذا هو ناصر الدين الذي يعرفه غيري بإعجاب أكثر وبلاغة أشد. فما أنا إلا واحد من هؤلاء وأولئك.
زاره رئيس الجامعة الحالي الدكتور إخليف الطراونة في مكتبه الذي يعمل فيه خارج الجامعة وذلك قبل رحيله بأشهر. عرض عليه ألا يتردد في أن يطلب من الجامعة ما يمكن أن تقدمه له. أجاب ناصر الدين أنه يستأذن الجامعة في أن يستمر في تدريس طلبة الدراسات العليا بدون مقابل مادي وأن توقف الجامعة دفع أي مستحقات مادية له. وقبل أن يغادر الرئيس مكتبه طلب منه ناصر الدين أن تقبل الجامعة هديته للمكتبة التي كان أول من أسسها عند تأسيس الجامعة، والهدية هي تقديم مكتبته الزاخرة للجامعة لتكون إضافة نوعية لمكتبة الجامعة. لم يكن ناصر الدين يعلم أن الجامعة قد أطلقت اسمه على كبريات القاعات في المكتبة لتكون شاهداً على تراثه الذي يذكِّر بمكانة صاحبه في الريادة والقيادة.
بقي شيء واحد لا بد من ذكره هنا، وهو أنني لم أتعرض لشيء من مؤلفات الدكتور ناصر الدين الأسد الأدبية والعلمية وتحقيقاته التي يعلم الجميع كم من أثر لها على الأدب العربي. وأنا شخصياً عاتب على طلاب الأدب الذين لم يقدموا على سبيل المثال دراسة أو دراسات وافية أكثر لمصادر الشعر الجاهلي مثلاً، سيما وأن دراسة هذه المصادر كانت دراسة رائدة لم يسبق لها مثيل، ولا تكفي الدراسات المختصرة التي تعبر عن الإعجاب والامتنان. قبل عدة أعوام كنت في زيارة إلى مكتبة البودليان الشهيرة في أكسفورد، وقصدت مكتباً كانت الجامعة قد فتحته لشخص اختص في إعداد القواميس، حيث أصدر قبل وفاته قاموساً إنجليزياً عربياً وبالعكس، وفي حجمين متفاوتين. عندما زرت ذلك الشخص في مكتبه قال لي، وهو لا يعرف عني غير أنني عربي، مشيراً إلى رف الكتب أمامه: لا أستطيع العمل بدون مصدرين أمامي هما: مصادر الشعر الجاهلي ومختصر تفسير الطبري للقرآن الكريم لابن صُمادِح: أحدهما من تأليف ناصر الدين الأسد والآخر من تحقيقه، هل تعرف ذلك الشخص. وكانت طبعاً صدفة جميلة وبداية لعلاقة وثيقة بيني وبين ذلك الرجل. وخرجت من المكتب متمتماً: سبحان الله، كيف ينفع العلم غير أهله في أرض غير أرض أهله!
وكلي أمل في يوم من الأيام أن أستطيع النهوض بدراسة لغوية أدبية حول الإيقاع في كتابات ناصر الدين. ولا يضيرني أن أعلن عن الموضوع هنا، فمن يريد أن يسبقني إلى الكتابة فيه فيتفضل مشكوراً وسأكون له عوناً ومكملاً، وأنا واثق أن الموضوع يحتاج إلى أكثر من دارس مثلما هي حياة ناصر الدين بحاجة إلى أكثر من مؤرخ.
ومعذرة إلى الله وإليه (هذه كلماته) إنني لم أوفه حقه، ولكن الأجيال المتعاقبة التي ستجد في أدبه وفكره منهلاً عذباً لها ستقوم مشكورة بأداء الأمانة وحمل الرسالة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :