facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




تشي جيفارا .. الثائر والإنسان


د.عادل عزام سقف الحيط
13-10-2008 03:00 AM

إذا كنت لا تؤمن بأن افتداء الإنسانية قضية مقدسة... لا تقرأ هذه المقالة

في ذكرى رحيله.. ليستخلص المستضعفون دروساً من سيرته...


ارتكز الفدائي إلى إحدى أشجار الغابة وقد أثخنته الجراح، كان مصاباً في ساقه لا يقوى على الحراك، لكنه استمر في إطلاق النار على محاصريه حتى دمرت سبطانة بندقية 2-م، فأحاط به الأعداء وأسروه إلى قرية "هيغيراس" على بعد 12كم عن مكان المعركة.

وفي غرفة مظلمة، في إحدى مدارس القرية، جلس جيفارا مستنداً إلى الجدار يتنفس بمشقة. ودوي صوت طلقات حيث أعدم رفيقاه. ثم دخل الجلاد بعد أن ثمل تماماً، ولما اقترب وبدا له وجه جيفارا تردد.. فبادره جيفارا بشجاعته المعهودة: "أطلق النار لا تخف!" وتراجع الملازم برادو مخذولاً، فأعاد العقيد سيلينيتش توجيه الأمر إليه بحدة، فعاد برادو وأفرغ رصاص رشاشة في ظهر الأسير، بينما أطلق سيلنيتش رصاصة واحدة اخترقت قلبه .. ومات تشي.

هذه ببساطة هي نهاية البطل الأسطوري جيفارا.. نهاية حمراء.. بلون الورد الجوري... بلون الشفق المضمخ بدماء الشهداء.. بلون الثورة.. بلون الحرية.



نشأته ودراسته
ولد أرنستو جيفارا في الأرجنتين ليلة 14 حزيران عام 1928 وعاش طفولته في مدينة صغيرة تدعى "التاغراسيا". وهو ابن لعائلة إسبانية إيرلندية الأصل تعد من البرجوازيات المتوسطة في المدينة.

أصيب تشي (كلمة أسبانية تعني الرفيق) بالربو في الثانية من عمره، وكان والده ينام إلى جواره حيث كان ابنه الصغير يواجه نوبة المرض بشكل أفضل عندما يكون نائماً ورأسه مستنداً إلى صدر أبيه. ولما كبر كان ذهابه إلى المدرسة متقطعاً، وكان إخوانه ينسخون له الدروس ليستظهرها لاحقاً في البيت. لكن إصابته لم تثنه عن ممارسة الرياضة التي عشقها منذ الصغر، وبخاصة لعبتا كرة القدم والرجبي، إلا أنه كان يضطر إلى ترك الملعب كي يستعين "بالرذاذ" لمواجهة نوبات الربو.

كان تشي ينظر إلى المصاعب على أنها تحديات، وقد تأثر لوفاة جدته بمرض السرطان ومكابدة والدته لذات المرض، ناهيك عن إصابته بالربو، فتوجه نحو دراسة الطب في جامعة "بيونس آيرس". واستطاع اختصار ست سنوات جامعية في ثلاث فقط، مجتازاً ستة عشر اختباراً في ستة شهور، بالرغم من إصابته بخمس وأربعين نوبة ربو في نفس الفترة. وقد وصفت عمته معاناته بقولها: "كنا نسمعه يلفظ الكلمات لاهثاً، ويدرس وهو متمدد على الأرض كي يسهل تنفسه، ومع ذلك لم يتذمر أبدا".

لم يكن تشي مهتماً بإحراز علامات متميزة، بل كان يفضل بذل جهد مضاعف في الوقت الأخير، وكان دمثاً متعاوناً مع أقرانه الطلاب ويبدو غريباً ومتمرداً أحياناً. بالنسبة لأحد أساتذته بدا واضحاً أن تشي ينمو بشخصية واضحة المعالم، ومزاج متقلب وسلوك غير منضبط؛ ومع هذا فقد كان تام النضوج.


رحلاته
أحب جيفارا الشعوب المستضعفة، وحاول دائماً أن يتفهم مشاكلها ويقترب من همومها، وفي ذات الوقت كره البرجوازيين الوقحين الذين لا يحفلون بالإنسانية ولا يحتملون آلامها، وكل ما يشغلهم هو كنز المال، فدفعته هذه الروح الثورية إلى التجوال في إحياء الأرجنتين الفقيرة. ثم اغتنم عطلته الدراسية وانطلق بصحبة رفيقه "البرتو" في رحلة إلى عدد من دول أمريكا اللاتينية، وقد اعتمد الرفيقان على ذاتهما في توفير مصاريف الرحلة، فعملا في قيادة الشاحنات وتحميل المراكب والتطبيب وجلي الصحون وحراسة المستودعات وغيرها.. غير أن أكثر الأعمال تأثيراً في نفس جيفارا كان عمله في ملجأ للمصابين بمرض الجذام في "سان باولو" الواقعة على نهر الأمازون، هناك اكتشف تشي أعلى أنواع التضامن الإنساني والإخلاص بين رجال منعزلين يائسين.. لا أمل لهم في العودة إلى قراهم. وقد أحبهما المصابون فشيدوا لهما طوافة يقطعان بها نهر الأمازون باتجاه كولومبيا في طريق عودتهما إلى أرض الوطن.

ساعدت الرحلة تشي على تحسس مواطن الجمال والطبيعة والتاريخ في قارته، ومواطن الأسى متمثلة في الجوع والجهل والمرض. وقد تأثر المناضل اليافع، بمعاناة الجماهير الكادحة تحت سياط الاستغلال الإمبريالي الجشع، وأحس بمسؤوليته تجاه المظالم الاجتماعية التي يجترحها الإمبرياليون بحق الشعوب المغلوبة على أمرها، فخالط الفقراء وقاسمهم مشاعر الأخوة، ومشاعر النقمة تجاه المستغلين والمتسلطين على أرزاقهم. في نفس الوقت بدأت تتبلور لديه بواكير المشاعر الأممية التي عبر عنها بوضوح في قوله: "أشعر أنني جواتيمالي في جواتيمالا ومكسيكي في المكسيك وبيروني في بيرو". وأخذ يعد نفسه للمرحلة القادمة، فحاول في كل مناسبة أن يتنصل من أصله الثري، ويدرب نفسه على تحمل الشدة والمعاناة والحرمان. وكان من العزيمة بحيث يستمر في السير زهاء ثلاثة أيام في أراض شديدة الوعورة دون أن يتذوق طعاماً قط!!


مغامر حالم يبحث عن ثورة
تخرج جيفارا طبيباً عام 1953 وبدأ رحلته الثورية في مقارعة الإمبريالية، فكانت محطته الأولى هي جواتيمالا، وكانت قد تعرضت لغزو هجمي قامت به قوات مرتزقة مدربة ومجهزة بواسطة المخابرات المركزية الأمريكية، فحفز هذا العدوان السافر روح النضال لدى تشي، وحاول جاهداً أن يكوّن اتصالاً بعدد من المجموعات الثورية المحلية لتوحيدها في قوة تستولي على المدينة وتعدّ الدفاعات اللازمة لمواجهة المرتزقة. لكن جهوده ذهبت سدى نتيجة للموقف الحكومي السلبي والرافض لتسليح الشعب والقتال بصورة جدية. فاضطر إلى اللجوء إلى سفارة دولته عقب وصول قائد المرتزقة " أرماس" إلى السلطة.

دفعت تجربة جواتيمالا تشي إلى الاقتناع بضرورة خوض الكفاح المسلح العنيف وأخذ المبادرة في مهاجمة الإمبريالية، ورغم مرارة الهزيمة، لم يعد تشي إلى الأرجنتين وإنما شد رحاله إلى المكسيك. ويحضرني في هذا المشهد قول لروجي دوبريه: "إن الفشل بالنسبة للثوري هو نقطة الانطلاق، وهو مصدر إلهام له أكثر من الانتصار، لأنه يجمع بين التجربة والمعرفة".

وفي المكسيك عكف تشي على دراسة النظريات الثورية، وبشكل خاص الأعمال الكاملة لماركس ولينين. وفي صيف عام 1955 التقى الزعيم الكوبي المنفي آنذاك، "فيديل كاسترو" وبدأت تتبلور لديهما رؤى ثورية مشتركة من أجل تحرير كوبا من نير الاستبداد والتسلط والخيانة. كان قلب تشي يشتعل غضباً، وكل ما يحتاجه هو ولادة ثورة جديدة، والقتال إلى جانب رجال تلهمهم المثل الثورية الأصلية للنضال ضد الطغيان، يقول تشي: "إن اقتناعي بالالتحاق بأي ثورة ضد الطغيان لا يستغرق من الوقت إلا القليل". فالتحق تشي بالثوار دون أدنى تردد، رغم زواجه الحديث من آليديا، التي علقت بدورها على رحيله فقالت: "لقد ضحيت بزوجي من أجل الثورة الكوبية".


الحرب الثورية في كوبا
تسلل الثوار إلى السواحل الكوبية ضمن مجموعة تضمنت ثمانين من الأنصار، وبعد فترة من تغلغلهم في الغابات المحاذية للساحل هاجمتهم قوة حكومية على حين غرة، فاشتبكت معهم في قتال عنيف أودى بحياة جلّ الثوار، ولم ينج منهم سوى إثني عشر مقاتلاً يقودهم كاسترو وراؤول وجيفرا، حيث كوّنوا فيما بعد بؤرة ثورية تجتذب المزارعين للانضواء تحت راية الجيش الثوري.

كانت استراتيجية الثوار تتمثل في تكوين قوة ريفية تزحف إلى المدينة. فأخذوا في إعداد الخلايا المسلحة، واعتمد تكتيكهم القتالي على تشتيت قوة العدو والهجوم المباغت على قواعده وطرق مواصلاته، وإعداد الكمائن قرب ثكنات الجند. كما قسّم الثٌوار أنفسهم إلى عدة محاور للضغط على الجيش الحكومي من أكثر من جهة، ودار القتال متقطعاً وعنيفاً من قرية إلى قرية، وقد سجل تشي بطولات نادرة في مجاهدة الأعداء، ومجاهدة المرض أيضاً. ففي إحدى المرات أصيب تشي بنوبة ربو حادة، مما حدا بالرفاق إلى تركه عند أحد المزارعين ليعتني به، وقد التحق لاحقاً بالثوار، وكان يعتكز على سلاحه، فقطع المسافة في عشرة أيام علماً أنها تحتمل مسيرة يوم واحد لغير المصاب.

وفي إحدى الليالي تسللت قوة حكومية خفية تجاه مخيم جيفارا، وفتحت النار من مكان قريب، فكان على الثوار أن يلوذوا هرباً بشكل منظم وسريع. وفي هذه الأثناء كان إلى جوار تشي صندوقاً للأدوية وآخر للذخيرة، وصعب عليه حملهما معاً، فاختار صندوق الذخيرة وتغلب شعور المقاتل داخله.

انتقل الثوار من نصر إلى نصر، والتفت حولهم جموع المحرومين فأسسوا شبه دولة ثورية في عدد من القرى المحررة. وبعد معركة "الأوفيرو" الشهيرة أصبح جيفارا الرجل الثاني في الجيش الثوري بعد كاسترو. وكان قد وضع مسودات لمؤلفه الثوري "حرب العصابات" المتضمن مخططاً توضيحياً شاملاً لحرب الثوار المنظمة ضد الجيوش الحديثة المدججة بالتكنولوجيا. وقد خلص تشي في كتابه إلى جملة مبادىء واستراتيجيات استخلصها من التجربة الكوبية، نستطيع أن نجملها في النقاط التالية:

أولاً: إن القوى الشعبية يمكنها أن تشن هبّات مسلحة ضد الجيوش النظامية، وتحسم المعركة لصالحها. فليس هناك ما يبرر إذاً موقف المتفرج الذي يقفه الثوريون الزائفون. وقد عبّر تشي دائماً عن انتقاده للسياسات المائعة التي تنتهجها أغلب الأحزاب الشيوعية في أمريكا اللاتينية، فمنذ البداية عارض تشي طروحات الأحزاب الشيوعية التقليدية التي تدعو إلى التحالف مع جزء من "البرجوازية الوطنية" وإعطاء الأولوية للصراعات السياسية والانتخابات، كما أنه رفض رفضاً قاطعاً فكرة الاستيلاء السلمي على السلطة، فالمسألة لديه ليست خوض انتخابات، ولكن صراع مرير للإطاحة بالجيش والقوى الرجعية وأجهزتها كافة.

ثانياً: ليس من الضروري الانتظار إلى أن تنشأ حالة ثورية، فهذه يمكن خلقها بنواة ثورية. وفي هذا البند مخالفة للحتمية التاريخية الماركسية بمفهومها التقليدي.

ثالثاً: تعتبر المناطق الريفية في البلدان النامية أفضل ساحات قتال للكفاح المسلح، ويقول جيفارا في هذا الصدد: "يجب أن ينتصر الفلاحون في الريف ويحاربوا لتسقط المدن على ركبتيها كما يسقط الموز العفن". وتأثر تشي في طرحه هذا بالنظرية الماوية في حرب العصابات والتجربة الجزائرية والفيتنامية في دحر الاستعمار الإمبريالي.

في ساحات القتال واصل الثوار تقدمهم من شمال وجنوب الجزيرة باتجاه العاصمة، فحاصروا الحاميات العسكرية وأرغموها على الاستسلام تباعاً. بينما فر "باتيستا" مذعوراً إلى جمهورية الدومينيك. وفي 3 كانون الثاني لعام 1959 وصل الثوار إلى سدة الحكم في "هافانا" وأطاحوا بآخر فلول الباتيستية ثم تسلموا مقاليد الدولة، ووقع الاختيار على تشي "عدو النقد الأول" ليكون مديراً للبنك الوطني الكوبي!!


معركة البناء
آمن جيفارا بالعدالة الاجتماعية وضرورة اقتسام الإنتاج. كانت غايته قيام مجتمع عمالي يبذل فيه كل حسب طاقته ويحصّل من الأرزاق حسب حاجته، بذلك يتخلص العمال من مراحل الحرمان الرأسمالي ويسلكون طريق عودتهم إلى الإنسانية، ليمارسوا عملهم بسعادة وحب. فانعكست هذه الروح الرفاقية الراديكالية على مخططه وسياساته المالية تجاه القطاعات الإنتاجية في كوبا على النحو التالي:

عارض جيفارا نظرية المحصول الواحد. وكان 75% من دخل كوبا يعتمد على زراعة قصب السكر. فدعم مشاريع التحديث الصناعي والمكننة.
أقر جيفارا مبدأ عدم محاباة نوع من المشاريع دون غيره بفائض الربح، وتوجيه هذا الفائض إلى الدولة لتحوله إلى تطوير الإنتاج والإنفاق العام.
عارض جيفارا القروض الروسية ذات الفوائد، ووصفها بالاستغلال والأنانية.
منح جيفارا القروض الاقتصادية للمشاريع الوطنية بلا فائدة، حتى لا يفسد هدفها الاجتماعي.
دعم جيفارا المشاريع الربحية الناجحة، والمشاريع الأقل نجاحاً ذات الأهداف التنموية الإجتماعية، بنفس النسبة من القروض. فليس من العدل في شيء تشجيع المنافسة بين مشروع تجاري ينتج الجعّة وآخر ينتج الكتب المدرسية، لأن التوسع في صناعة الجعّة، بسبب ربحيتها، أمر غير مرغوب فيه من الناحية الاجتماعية، على عكس الغاية من إنتاج الكتب عامة.
عمل جيفارا على تطوير الوعي الثوري ليكون حافزاً على زيادة الإنتاج.
وقد أحب تشي العمل، واعتقد أنه مكافأة وواجب وطني. لذلك لم يكتف بالعمل المكتبي أو الوظيفي وإنما عمل أيام عطلته في المناجم والمزارع، وكان يجالس العمال ويتعرف إلى مخاوفهم وآمالهم عن كثب. وقد شوهد عدة مرات مرتدياً قميصه الذي نحل لونه في بعض مواضعه وحذاؤه المترب، يقود المزارعين فرحاً إلى مزارع قصب السكر بصحبة زوجته ولفيف من أصدقائه. وفي المزارع ينهمك الجميع في قطاف المحصول تحت أشعة الشمس المحرقة. وبعيداً عن كاميرات الإعلام كانت قبضتا تشي تعانق المنجل في عشق لا مثيل له للأرض والعمل، وهي ذات القبضة السمراء التي طالما عانقت السلاح بعزم، وضمت الفقراء والمحرومين بعطف رؤوم.

صدر مرسوم يتضمن تعديلاً وزارياً جديداً عام 1961، عُين تشي بموجبه وزيراً للاقتصاد، فأراد تشي منذ البداية أن يطور قاعدة التصنيع في كوبا رغم الصعوبات التي فرضها الحصار الإمبريالي على الجزيرة، ونقص الأيدي العاملة. أراد تشي أن تعتمد كوبا على اقتصادها الوطني وأن ترفض التبعية للقوى الكبرى، حتى لو كانت الاتحاد السوفيتي، وقد قال تشي: "إن ظلت كوبا بلداً زراعياً أمست رهينة لحماية السوفييت. ونحن لم نقم بالثورة لنصل إلى هذه الحتمية".

العمل الوزاري لم يغير تشي، فهو لم يتخل عن مثاليته في السياسة أو الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية. في إحدى الأيام كان يجلس في مكتبه بصحبة رفيقه "ريكاردو روخو"، عندما هاتفته زوجته وبدا أنها تطلب منه إرسال سيارته الرسمية لتستخدمها في بعض شؤونها في المدينة. فكان رد جيفارا: "لا يا آليدا، لا، أنت تعلمين جيداً أنها ليست سيارتي، بل سيارة الحكومة، فليس لك إذا أن تستخدميها، اركبي الباص كما يفعل كل البشر في الجزيرة". وذكرت والدته أنه كان يرسل كل الهدايا التذكارية التي يتلقاها إلى مراكز الشبيبة دون أن يكلف نفسه عناء فض أغلفتها ليعرف ما بها، بينما الزائر لمنزله يستغرب خواءه وتواضع أثاثه وكأنه منزل أحد الناسكين.

بيد أن مثاليته انسحبت أيضاً على إيمانه السياسي، فقد غضب بشدة للقرار الذي اتخذه "خروتشيف"، في مطلع تشرين الأول لعام 1962 والقاضي بسحب الصواريخ السوفيتية عابرة من غابات كوبا، استجابة للتهديدات الأمريكية. عارض تشي هذه السياسات التخاذلية، وأخذ ينادي، بصوت مسموع باستقلال القرار الكوبي عن سياسات الدول الكبرى، ويقول في ذلك: "إذا لم تقدَّم الخصائص الوطنية، في إطار الأممية الاشتراكية، فلن تجدي الاشتراكية شيئاً، وستظل بلداننا تشعر أنها بلداناً صغيرة في مواجهة البلدان الكبيرة. إن كونها بلدان كبيرة أكثر أهمية من أن تكون اشتراكية"!!


تشي يتمرد من جديد
في تشرين الثاني لعام 1964 قام تشي بزيارته الثالثة إلى موسكو، وتبعها بزيارة نيويورك ضمن الوفد الكوبي، حيث ألقى هناك خطابه الشهير أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة. ثم استأنف تجواله بين العديد من عواصم دول العالم، مؤيَّداً بدعم من الرئيس الجزائري بن بلا، الذي كون محوراً اشتراكياً مستقلاً مع كوبا، وصداقة خاصة مع جيفارا. كما التقى عدداً من القيادات الفلسطينية الثورية، وأشاد بجهادهم البطولي ضد الصهيونية الغاصبة، معتبراً الثورة الفلسطينية رمزاً ملهماً لنضالات الشعوب المستضعفة. وقد تواتروا عنه قوله: "لو قاتل إلى جوارنا خمسون فدائياً فلسطينياً، في بداية الثورة الكوبية، لاختصرنا الحرب الثورية في كوبا إلى النصف"!! اختتم تشي جولاته بزيارة "مصر عبد الناصر" ثم عاد إلى كوبا.

وفي كوبا اجتمع بالرفيق كاسترو مدة أربعين ساعة متواصلة. اعتكف بعدها تشي لوقت من الزمن، وبدا أنه غير مقتنع بما يجري على الساحة الدولية، في حين أن الجلوس خلف المكاتب لم يعد يحقق حلمه، فاختار طريق السيرامايسترا (مناطق وعرة في الجزيرة الكوبية دارت عندها معارك حاسمة بين الثوار وقوات باتيستا. وقد نظمت لاحقاً أناشيد ثورية تحمل اسمها كرمز للنضال الحاسم) من جديد وبدأ يعد عدته للرحيل.

ويمكننا أن نوجز الأسباب التي دفعت تشي إلى اتخاذ هذا القرار بصورة نهائية إلى النقاط التالية:

القناعات التي توصل إليها إبان زيارته الأخيرة إلى موسكو، ومفادها أن الروس قد قبلوا بالتعايش السلمي مع القارات الغنية.
في إطار الحرب الباردة وتقسيم مناطق النفوذ بين المعسكرين الشرقي والغربي، تعهد الاتحاد السوفياتي بأن لا تحاول كوبا تصدير ثورتها إلى دول المنطقة.
موافقة كاسترو على إخضاع كوبا إلى سياسة تقسيم العمل في العالم، وبذلك تصبح كوباً بلداً زراعياً فقط. وكان تشي قد عارض بشدة هذا الطرح لأنه يعزز الهيمنة الروسية على القرار الكوبي الوطني.
اتسمت قرارات كاسترو الأخيرة بمسايرة الأمر الواقع، بينما لم يتخل جيفارا عن رومانسيته الثورية النقية، وكان شعاره "لنكن واقعيين ولنطلب المستحيل".
بعث تشي برسالة إلى أمه، أخبرها فيها أنه تخلى عن دوره كزعيم ثوري في كوبا. مرة أخرى تخلى سليل الأسرة البرجوازية عن الرفاه الموعود وهجر الوزارة والسلطة ليعود إلى السلاح، ربما لأنه لم يستطع أن يتخذ موقفاً سلبياً من المعاناة والألم الانساني، وهو في طبيعته متحدٍّ حتى للمستحيل.

وقد تنازل تشي لاحقاً عن منصبه الوزاري ورتبته العسكرية وجنسيته الكوبية ليخلي مسؤولية الرفاق الكوبيين من تبعات مغامرته القادمة. وكتب رسالة وداعية إلى رفيق دربه، فيديل كساترو، جاء في جزء منها: "إن بلداناً أخرى في العالم تطلب الآن ما أستطيع الإسهام به من جهد متواضع. وفي وسعي أنا أن أفعل ما لا تستطيعه، لأنك تبقى مسؤولاً عن مصير كوبا، وإنني أبرىء كوبا من كل مسؤولية، إلا مسؤولية كونها نموذجاً وقدوة. لقد حانت ساعة فراقنا...".

وكتب يودع والديه: "إنني أعتقد أن الشعوب التي تكافح من أجل تحررها لا تملك سبيلاً آخر غير الكفاح المسلح، وعملي ينسجم مع عقيدتي. مغامر؟ نعم، وأنا من أولئك الذين لا يجبنون عن المجازفة بجلدهم كيما تنتصر قناعتهم... إن ساقيّ اللتين أصبحتا رخوتين، ورئتي المتعبتين، ستدعمهما بعد اليوم عزيمة جهدت في اكتسابها، وسأكون جلداً في المعركة. ويستطرد في موقع آخر وقد تنبأ بقرب استشهاده: "هذه المرة قد لا أنجو، فإذا ما وقع ذلك فلتكن هذه قبلتي الأخيرة لكما". وكتب إلى صغاره الخمسة وصية مؤثرة جاء فيها: "لتكن لديكم المقدرة يا صغاري على أن تتأثروا في أعماق جوانحكم بأي ظلامة تصيب أياً كان في أي بقعة من العالم، إن هذه أجمل فضائل الثوريين. وداعاً يا صغاري .. أعانقكم بكل قوتي وأشدكم إلى قلبي، أبوكم".

غادر تشي كوبا مروراً بمصر إلى الكونغو، وقاتل فيها طيلة تسعة أشهر، ثم ما لبث أن غادرها متأثراً بالصراع الصيني الروسي هناك. وكان الاختيار الثاني هو بوليفيا، وقد نمى حلم تشي القديم في إشعال عدة فيتنامات في العالم لإنهاك الإمبريالية تمهيداً للإجهاز عليها نهائياً.


الرحيل الأخير
ناقش تشي خطته الحربية مع كاسترو، الذي أصبح أكثر اقتناعاً بضرورة التغيير السياسي، ثم ودّعه للمرة الأخيرة ورحل بصحبة 17 فدائياً إلى بوليفيا. وصل الثوار إلى غابات بوليفيا الكثيفة، سراً، وكوّنوا بؤرة ثورية اشتبكت مع الجيش الحكومي في معارك متفرقة. من ناحية أخرى حاول جيفارا مد جسور التعاون مع الحزب الشيوعي البوليفي، لكن محاولاته باءت بالفشل، لأن الحزبيّين اشترطوا أن يتسلموا قيادة المعركة. وقد رفض تشي تسليمهم القيادة، فهو يؤمن أنها أجدر بالمقاتل الذي يقود الجند على أرض المعركة، لا بمن يجلس على الأرائك الوثيرة خلف المكاتب الحزبية المرخصة فيما يتأثر قراره بالأوامر الواردة إليه من الخارج تارة، ومن السياسات الحكومية الداخلية تارة أخرى. أما الشيوعيون الحزبيون فقد أخذوا على جيفارا نظرته الشعبية الموسعة، التي جعلته يضم في معسكره مختلف أطياف اليسار من الموالين للسوفيات والموالين للصين والتروتسكيين والمنشقين عن الحزب الشيوعي البوليفي. لقد أرادوا استبعاد كل من خالفهم ليتفردوا بمعركة التحرير في أنانية مفرطة.

تناهى إلى الأعداء وجود جيفارا مع الثوار وبذلك أصبح الاختفاء غير مجد، فقرر تشي أن يصعّد حدة القتال، وكتب بياناً عسكرياً نارياً ذيّله بالعبارات التالية: "يا رجال الريف ... يا رجال المناجم والمعامل والمدارس والجامعات .. أيها الرجال الشجعان، أيديكم على البندقية". وقد حقق الثوار لاحقاً نصراً سياسياً باحتلالهم قرية "سامايباتا" بمساعدة الأهالي البسطاء. هذا النصر الرمزي أرعب الأعداء، حتى أن حكومتي الأرجنتين وبيرو المجاورتين أغلقتا حدودهما وأعلنتا التعبئة العامة.

وأراد الجيش أن يسترد هيبته، فحشد قواته، يدعمها المدربون الأمريكيون، وبخاصة المخابرات المركزية، التي استُجلبت خصيصاً لتساند القوات الحكومية في معركة الإبادة الأخيرة ضد الثوار.

ويمكننا أن نجمل الأسباب التي أدت إلى انعزال وتراجع الثوار في النقاط التالية:

تخلي الحزب الشيوعي البليفي عن دعم الثوار.
حرمان الثوار من الدعم اللوجستي.
قلة عدد الرجال المتطوعين للقتال.
عدم توفر معلومات كافية عن البيئة المحيطة.
عزوف السكان الأصليين عن دعم الثوار وصعوبة الاتصال بهم نظراً لاختلاف لغتهم وعاداتهم " الهنود القدماء".
هروب المتخاذلين من معسكر الثوار إلى ثكنات الجيش المعادي وإفشاؤهم لأدق الأسرار.
قساوة الجغرافيا التي أودت بحياة الكثيرين.
ضراوة الهجمة المضادة المدعومة من اليانكي الأمريكي وجهاز مخابراته.
قريباً من وادي نهر "جورو" دارت رحى المعركة الأخيرة. هناك باغت الأعداء تشي ورفاقه وأمطروهم بوابل من رصاص بنادقهم، فتفرق الثوار وانتحى تشي ورفيقه "سيمون كوبا" في طريق فرعي. غير أن تشي أصيب في ساقه فحمله كوبا على ظهره في مبادرة بطولية محاولاً الابتعاد عن خط النار، ولكن رصاصة أخرى أصابته، فأنزله كوباً وحاولا الرد معاً على مصدر النيران. في هذه الأثناء حاصرهما رجال الصاعقة، بعد أن أثخنتهما الجراح وأسروهما مع من تبقى من الأحياء إلى مثواهم الأخير. اغتيل جيفارا في تشرين الأول من عام 1967، وبقي مدفنه مجهولاً حتى وقت قريب؛ حيث اكتشف صدفة عندما كان العمال يقومون بأعمال الحفريات لبناء مطار في بوليفيا. وقد تم التعرف على رفات تشي وفقاً للإصابات المسجلة وشكل وطول العظام، كما قام الخبراء بمضاهاتها بالمقاييس الواردة في صوره. وأعيد رفاته في موكب مهيب إلى كوبا.

واليوم يتردد صدى لصوت ثائر وتنفسه المتعب في ردهات كلية الطب.. وبين جبال السيرامايسترا وأدغال بوليفيا العذراء.. وفي المصانع والمناجم والحقول وغرف الدراسة.. صوت تشي: "حيثما يمكن أن يفاجأنا الموت فأهلاً به، بعد أن تكون صرخاتنا القتالية قد وصلت بعض الآذان الصاغية، وبعد أن تكون يد أخرى قد امتدت لتحمل بعدنا السلاح، وبعد ان يكون رجال آخرون يرافقون مواكب الشهداء بزخات مزغردة من الرشاشات مصحوبة بصرخات القتال الجديدة وأهازيج النصر. إن الثوري الحق هو الذي يحارب ويموت في ظل علم أمة لم تولد بعد".

sociolegaloffice@yahoo.com






  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :