الإنتحار محرم شرعاً،والفتوى محسومة، وأنا مؤمنة بتحريمه . لكنَّهُ بلا شك أعظم الرسائل التي يوصلها الإنسان للمجتمع ، وهو أبلغ احتجاج على الظلم . الإنتحار – ولا أشجعه بل أحاول تحليله – هو رسم بياني يظهر مقدار اليأس الذي وصلت اليه الروح ، وهو أوسع أبواب الحرية وأطولها ، فأي قيود تبقى بعد أن تُغيّب نفسك عن المشهد المؤلم ...بإيصال النفس الى مطلق الألم ومنتهاه ؟
من ذا الذي يجرؤ على ادعاء امتلاكك ان أنت اخترت أن تنزل تحت ناظريه ؟ كم هي صفعة لذيذة على وجهٍ وقح تلك التي يصفعُها المُنتحر لمن يخنقه ويتحكم بمجرى أنفاسه . إنّها ماءٌ مثلّج ترميه فجأة في وجه جلادك فيبرد بل يتجمّد ، وقبل أن يقيّم آخر سلوك لك بالزعيق والصراخ ، تكون قد غيّبتَ نفسك عن المشهد القبيح الذي عوّدك عليه...ولكن ليس بعد الآن .
الإنتحار هو ثورة اليائسين ، وسلاح منزوعي السلاح ، وهو ربيع دائم لشعوب المقهورين المقموعين الذين لم يتسنّ لهم الكلام طيلة حياتهم ، فكثفوا البلاغة كلها بحدث الإنتحار ، وقالوا من خلاله ما لم يقله المتنبي في الكبرياء .
الإنتحار هو أن تُدلي برأيك في الحياة من خلال موتك ، أليس هذا سقفُ التعبير وقمَّتُّه ؟ وهو الموافقة الأبدية على ما أنت فيه ، فبموتك تكون قد جمّدت لحظة السؤال البشع الذي يسأله جلادك :"هل تفهم ما أقول ؟ " سواءً كان جلادك رجلاً أو فقراً او صداعاً من أي نوع آخر....
إنَّهُ الغياب عن حواسِّ مُنتقديك وتأويلاتِهم ، وهو التشخيص النهائي لما لم يُشخّصه الأطباء على أنَّه إكتئاب او انفصام وجداني أو غير وجداني! انه التفسير الوحيد والأخير لحجم الجمر الذي يُسوّر قلبك . ماذا عن دموع أبنائك من بعدك ؟ لا بأس ؛ فكثير من الدمع يغسل الروح ويُهيّئها للترفُّع عن ظلم الناس وشتمهم وإيذائهم ، والدموع تخفض الصوت العالي ، وتُهذّب النفس المُتوحشة ، ويقال أنها تُجمّل الوجه وتُضفي عليه إشراقاً . حسناً ، بالنسبة لأمك ... في خزائنها " مونة" تاريخية من الألم والحزن عليك تحتفظ بها مع طقم العرس وذكريات من رحلوا .
عندما تنتحر يُصنُّفك المجتمع على أنك شهيد أحياناً – كالبوعزيزي:سيّد المنتحرين – أو انتحاري أحياناً ،حتى وان كنت تُقاتل عدوّك، أو مقاتل كاميكازي رفيع التضحية . الناس مُحتارةٌ بتسميتك ، وتخشى من فخّ تصنيفك ، فلا تُصلي عليك صحيح ، ولكن تترحَّم عليك مليون مرة في جوفها...هناك ، حيثُ دفنتَ حزنك المرير قبل أن يتسائلوا عنك :"هل كنت حزيناً الى هذه الدرجة ؟
لم لم (تُفضفِض) من قبل ؟ لا حاجة لذلك الآن؛ فها قد قُلتَها صراحةً :"أنا حزينٌ حَدّ اكتمال الحزن، وفتحِ صفحة جديدة مع شيء آخر لا أَعلمُه " أنا حزين وعاجز الى درجة أنني سأُحرِّرُ الحُزن مني شخصيّاً، وأُغيّب نفسي عن ناظريه..بل وأفديه بروحي.. وهذه هي أعظم رسائلي . وشكراً .
Ikramdawud@yahoo.com