facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




معلم العربية (رسالة إجلال وإكبار)


د. يوسف عبدالله الجوارنة
17-08-2021 08:36 PM

للهِ دَرُّها لغةً، يتحدّثُ بها جمعٌ غفيرٌ من النَّاس على امتدادِ الأرضِ بأطرافِها! حتى غدا حافظُها يُشارُ إليه، ويُختلَف عليه، كأنّما يعيشُ في زمنِ العبقريَّة التي أَنْجَبتْ جهابذةَ العربيَّة في الفصاحةِ والبيان.

ولعلَّ العربيَّةَ مِن بين اللغاتِ، بلْ من أجلِّها، قد اكتسبتْ خُلودًا على مرِّ الزَّمان، بعلماءَ حَفِظوا كيانَها، واستخرجوا كنائنَها، واستظهروا بواطنَها، واكتسَوْا حُلّةَ الجمالِ ببيانِها؛ وإنّما تَخلَّدَ امتدادُها، وتَصاعدَ ألقُها، وتَسامى كبرياؤها، بخلودِ القرآنِ الكريم، جَعَلَ منها لغةً حيّةً يَحياها كلُّ النَّاس قديمًا وحديثًا، عربًا وغيرَ عربٍ؛ لغةً لا تتخلَّف، بلْ تتجدَّدُ بإحسانِ المُخْلصين المُبدعين مِن أبنائها.

ولمّا كانتِ اللغةُ العربيَّةُ والدِّينُ صِنْوينِ لا يَنْفصلان، ولا يَبْرحُ أحدُهما الآخرَ، ويُشكّلانِ رُكْنينِ رَكينينِ في مُقوِّماتِ الحَضارةِ العربيَّة والإسلاميَّة، ولمَّا كان الدّينُ له رجالُه العُدُول؛ فإنّ العربيَّةَ لها عُدولُها الذين يَذبُّون عنها أباطيلَ المُبْطلين، وتَحْريفاتِ المُحرِّفين؛ فثمّةَ مُحاولاتٌ كثيرةٌ أراد بها أصحابُها النَّيلَ مِن العربيَّة، لولا جهابذةٌ كِبارٌ ما فَتئوا يُبْطلونَ أكاذيبَهم وأباطيلَهم، ويُنيرون دُروبًا لأبناءِ العربيَّة كي تبقى لغةً حيَّةً ناطقة، تَرفلُ بثوبِها القرآنيِّ الخالد.

ولعلَّ الوقوفَ على عَتَباتِ عُلماءِ العربيَّةِ أساطينِ العلم، إذْ كانت العربيَّةُ مِن أحدِهم خُلُقًا وسلوكًا، وحياةً ونماءً، وعَذْبًا فراتًا لا ملحًا أجاجًا– يُثيرُ في المرءِ حَميَّةَ "عُكاظ"، وبَلاغةَ "مِرْبد"، وخَطابة مِصْقع، وسَجْعَ كاهن، وعبقريَّةَ أديب، ويُحبِّبُ إلى الشّادينَ في مَراحلِ الطَّلَب، عودًا أحمدَ إلى مَرابعِ السَّليقةِ والبيان.

وإذْ أقدّمُ هذه الكلماتِ الخَجْليات بين يدي هذه الرِّسالةِ الحَييّة، أستذكرُ معلّمًا للغةِ العربيَّةِ، إنسانًا نَموذجًا، جَمعَ مناقبَ حميدةً، وفضائلَ عديدةً؛ فالمرء له ألقٌ وكبرياء، وسَماحةٌ وانتماء، يَأنسُ المرءُ لأريحيّتِه، ويَعْجبُ لبداهته، ويَطْربُ لحديثه، ويُحبُّ بِشرَه، ويتمنّى لسانَه، ويَودُّ بنانه. هو نسيجٌ وحدَه، وعميدُ حالِه، ورقيبُ مقالِه، تأبى المَعاني عنده إلَّا أنْ تكون، وتتداعى الألفاظُ بين يديه فتجود.

يا له مِن مُعلّمٍ أبى فكانَ الإباء، ونَمَّى فانتعشَ النَّماء، واستَحيى فغضَّ الطّرْفَ الحياءُ، وسَمَا فطربَ له السُّموّ! وإذا نَصَحَ انزوى النَّاعقون، أو خَطبَ اختبأ المُرْجفون؛ فإليك سيّدي حيثما كنت، وأنتَ مُحاضرٌ مُقدَّمٌ، ومُنتدٍ محاورٌ، ومُناظرٌ شَرِسٌ، باسمًا ثَغرُك، منشرحًا صَدرُك، عفيفًا لسانُك، رقيقةً حواشيك، إليكَ يا من أردتَ جيلًا يَرْنو إلى العُلا، ويَتَخطّى صِعابًا قد يَخْبو عندها الطَّامِحون، وأَسْرجتَ فيه أملًا لا يَطْفو، وألقًا لا يَعْشو- إليك الكلمةَ الرَّانية، والرِّسالةَ الحانيةَ، في زمانِك النّديِّ، ومكانِك العَليّ.

كانت العربيّةُ فينا جسمًا بلا روحٍ، نعكفُ عليها ونَدْرسُها كأنّها لغةٌ أخرى، لا نُقيمُ لها مِيزةً، بل كنّا في أحايينَ كثيرةٍ نَصْرفُ الخاطرَ عنها، ونَطْربُ لا إليها، إذْ لم تَتكشَّفْ لنا جماليّاتُها، حتّى صَحِبْتنا زمانًا، وأنتَ الحريصُ المؤمِّلُ، والخبيرُ المُجرّب، يَتناثرُ البيانُ على لسانِك، وتَتَسابقُ الألفاظُ إلى نَوَالك؛ يَدلُّ على حُبّك إيّاها واعتزازِك بها، أنّها شيءٌ فيك جزءٌ منك، فقدانُه يُسلمُك إلى العِيّ والحُمّى، فأين مثلُك، وأصلُك أصلُك، وفضلُك فضلُك؟
هيهاتَ لا يأتِي الزَّمانُ بِمِثله
إنّ الزمانَ بِمِثله لَبَخـيلُ

ليتني أقرضُ فأنظمَك قصيدةً، ليتني أسجعُ فأُخلّدَك مقامةً، ليتني مِن هذه وتلك فأجعلَك لَحْنًا يَشدو به الصِّغار، ويَطربُ له الكِبار، لتكونَ أُغنيةً على مرِّ الزَّمان. كم آليتَ على نفسِك وأَجهدتَها في رحاب التَّعليم، أنْ تُنْشئَ جيلًا جديدًا مُتعلّمًا، يُؤمنُ بالمَعالي، ويأنفُ من التَّعالي، ويُلاحقُ الفكرةَ الشَّاردةَ، فتؤولُ واردةً بين يديه؛ تقودُ إلى بناءِ الأفكارِ، ومدِّ الجُسور، والتقاء الثقافات.

يا ليتَ لنا مثلَ ما أوتيتَ من العِلْم والحِلْم، والفصاحةِ والبلاغة، جَعَلتْ منك معلّمًا أخّاذًا، وفنّانًا أستاذًا، يَعتزُّ بك طلابُك ومُريدوك، ويَغْبطُك أقرانك ويَحْسدك مُبْغضوك؛ فأنتَ المُؤمِنُ بربّه، والمُنْشرحُ صدرُه للإيمان، كأنّ فيك خَصْلتَيْنِ حميدتَيْنِ، وعلامتَيْنِ أمارتَيْنِ، ذَكَرَهما الدكتور طه حسين يومًا، في الأديبِ المُفكّرِ والعَبْقريِّ المُبكّر سيّد قطب، هما: العناد، والمثاليَّةُ المثاليَّة؛ عنادِ التَّطرُّفِ، تَطرُّفِ الإباءِ، إباءِ العِلْم، وكلُّ ذلك مثاليّةٌ في مثاليّةٍ، وعظاميَّةٌ في عِصاميّة، وشَرَفٌ في أريحيّة، أَنْجَبَتْ رجلًا عبقريّة، ما أظلَّتِ الخضراءُ مثلَه، ولا أقلَّتِ الغبراء صِنْوَه.

لله درّك! ما أكفأك مدرّسًا! وأعذبَك مُحدّثًا! وأحلاك متألّقًا! وأشدَّك غاضبًا! وأرماك صائبًا! وأشدَّ تَواضُعَك خَشْيةً! إليك تَرْنو حلوقٌ ظامئة، وخُدودٌ مُصعّرة، ونفوسٌ حائرة؛ كأنّك حُزْتَ سَبْقًا كنتَ فيه ابنَ بَجْدَته، وأخا جُمْلته، وأبا عُذْرته، ومالكَ أَزِمَّته.

ما أفضلَ مُنْيةً يَحُوزها المَرءُ بعد التَّقوى مِن صُحْبةِ مُعلّمٍ مُخْلص! وما أشدَّ ظُلْمةً يُبْتلى بها من عِشْرة جاهلٍ أحمقَ! فالأوَّلُ يُثيرُ فيك حَميَّةً، ويُنيرُ لك دُروبًا، وما الثاني سوى صَفِقٍ غيرِ لَبِقٍ، وَقِحٍ غيرِ لَقِحٍ، بَليدٍ غَيرِ وَليد.

وبعدُ، فأرجو سيّدي، وأنت المُعلّمُ والقدوةُ والأخُ الكبير، يومَ حَمَلتَ رسالتَك بحقّها وحَقيقها، أنْ تَظلَّ نَجمًا أَشْرقَ ويُشْرقُ في حياتنا؛ فاللغةُ في فمِك تَخْرجُ كرائحةِ الياسَمين، فنعمَ المعلّمُ أنتَ، ونِعْمتِ التّربيةُ نَشَأْتَ عليها!





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :