في لحظة من الزمن افقنا واذا بك قد رحلت وودعت حضورك البهي بيننا بابتسامة بلغت قعر الحزن والغيظ وانت تندد بالسرطان وتستنكر غزوه لجيل كامل من ابناء بلدك، وكم أغاظك ان تعرف ان الجهات المسؤولة هونت الامر علينا وعليك وعلى كل الاردنيين الذين يشيعون موتاهم راضين بالقسمة والنصيب, وانكرت في تقاريرها وبياناتها ان السرطان يأخذ منا احسن ما عندنا، وقالت ان نسب الاصابات تضاهي ما لدى الدول العظمى من موت وهلاك وحزن، وبمقدار ما تذرف دموع الكون من دموع دون زيادة او نقصان، وطالبتنا ان لا نبالغ حتى لا نثير من الزوابع ما يكدر الاجواء، وان ننام مرتاحي البال مطمئنين الى ان ما يصيبنا ليس الا وفق المعايير العالمية، ولا بأس ان ننتظر الى ان يوقظنا السرطان ويختار اقصر الطرق الى ابداننا، عندئذ لا بأس ان ننهض مشرعين للادوية والعقاقير بوجه مارد لا يكل ولا يمل....!

يا لسخرية ما يدعون يا عوني ويا كل عوني في وطني العزيز ترجل كادحا وخاسرا لمعركته مع السرطان فانحنى لحظه ونصيبه ولقدره الذي تهدل من جميع الاتجاهات مدججا بالالم والهزال والكآبة السوداء قبل الاوان بثلاثين سنة على الاقل, فقد كنا بأمس الحاجة الى حضورك لتضفي على هنيهات الانس انسا رغم انشغالك وسفرك الدائم ومؤتمراتك التي اخذتك من صغارك ودارك، فتلقي من النكات ما يبدد (ثقالة دم ) هذا الزمن وبؤسه وشحوبه...,الى ان دنت لحظة الحساب وجاء دورك لتدفع ثمن كل ثانية من تفانيك وجديتك واخلاصك لقضية العصر وشعارك الذي ما تغير حتى وانت تتداعى كشجرة سرو تقتلعها جرافات الحداثة والعصرنة وحتى العولمة، العمل العمل والهمة الهمة كي نلحق بالامم، واذكر كم قيل لك تريث وقد شارفت على ستينك ومن حق اطفالك بسويعات ابوة تضمنها حقوق الطفولة كما هي مدونة في مواثيق الامم المتحدة ولوائح حقوق الانسان، ثم قلتها لي ومازحتني مرات (الا تهدأ؟) وانا مثلك ادق ازميلي في صخر هذا النصيب الذي ورثناه عن اب مجاهد بلغ ثمانينه ولم يستكن لشيخوخة ارادها محترمة فهاجر حاملا في حقيبته نكبات الامة ونكساتها وهزائمها الى اقاصي الارض، فمات غريبا لكنه كان ساجدا بين يدي الله, ومع آخر انفاسه تجشم ندما على انه ترك الارض بهشيمها وبورها لمن بعده..,هاجر ليستريح وعوضا عن ذلك ظل يداري مصاب الامة ويذرف دمعا على فلسطين والعراق, فاورثنا فواتير قومية مكلفة مثله مثل اي اردني لا يسأل لماذا وانما ما هو المطلوب منه كي يتمم دينه ودنياه ويؤدي واجبه لبقية العرب...

مضيت يا عوني وفي دفاترك خرائط وخطط وبرامج شغلك لبقية العمر، لكن السرطان قطع الطريق عليك وعلينا وعلى كل الذين آمنوا بأنك مواطن منتج قبل ان تكون مسؤولا منجزا، فمن قال ان الموت يأخذ كل حي، ففي سجل اعمالك ثلاثون سنة جميلة بالخلق الطيب والجهد المخلص والسعي الواثق وراء النجاح، ولما امسكت به وعلقته وساما على صدرك اغار عليك المرض واقعدك عن اقدس مقتنيات عمرك وهو العمل..., وفي ذكرياتنا عنك خزائن من المنجزات الباقية والقصص التي لن تموت..

هي الدنيا يا اخي..ما ان تنهض لتفتح لها الباب حتى تدير ظهرها، وفي عالمنا المسكون بالقلق دنيانا ليست كدنيا الآخرين,هنا لا وقت كي نستريح بين نوبات النكد، وهنا ننافق لنخدع انفسنا فلا نضحك الا مجاملين، لا وقت للحب بقدر الكراهية، ولا وقت للفرح بقدر الحزن، ولا افراح بعدد المآتم وبيوت العزاء، هنا نتجرع القهوة السادة ونقضي من العمر نصفه ننتظر الموت المفاجئ كما لو كان كامنا وراء المنعطف..من خبر الى خبر, ونقلب الصفحة على مصيبة تغطي مساحات الأسى للصفحة التي سبقتها..عليك ولك الرحمة، ولكل الذين ماتوا قبل الاوان وتركوا وراءهم الحيرة والسؤال.

جريدة الرأي
جهاد المومني