خدعة الـ 15 قرشاً .. هل تنتصر الحكومة على شعبها؟! ..
محمود الدباس - ابو الليث
20-01-2025 08:04 PM
في ليلة باردة من ليالي أحد الأوطن..
تسربت أخبارٌ من أروقة الحكومة.. عن نيتها رفع سعر سلعة أساسية.. الرقم كان صادماً للجميع.. نصف دينار كامل.. غضبٌ عمّ وسائل التواصل الاجتماعي.. هبّ المواطنون غاضبين.. متسائلين كيف يمكن تحمل عبء إضافي كهذا.. وسط ظروف اقتصادية متدهورة.. ووسط هذا الغضب.. برزت مجموعة من الأصوات.. التي اقترحت أن تكون الزيادة بين 20 و30 قرشاً فقط.. كحل وسط.. يراعي أوضاع المواطنين الصعبة.. وبعد أيام من النقاشات والضغط الشعبي.. خرجت الحكومة بقرارها النهائي.. لتعلن عن رفع السعر 15 قرشاً فقط.. وهنا ضربت عصفورين بحجر واحد.. إذ أظهرت تعاطفاً مع المواطن.. واستجابتها لصوته.. وفي الوقت ذاته قدمت نفسها بصورة أكثر رحمة.. وعدالة.. ممن ادعوا الدفاع عن حقوق المواطن.. فهي لم ترفع السعر 20 قرشاً كما اقترح هؤلاء.. كحدٍ أدنى.. بل أقل من ذلك.. وكأنها الحامي الحقيقي لمصالحه.. بينما في الواقع.. كانت تخدم أهدافها منذ البداية بكل دهاء..
الحقيقة أن المواطن في تلك اللحظة.. لم يكن يحتفل بإنجاز.. أو إنصاف.. بل كان ضحيةً لتلاعب ذكيٍ ومحكم.. فالحكومة لم تكن لتفكر يوماً في رفع السعر نصف دينار.. كان الرقم مجرد فخ نفسي وإعلامي.. هدفه إثارة الهلع.. ودفع الجميع لتقبّل الزيادة الحقيقية.. التي أرادت الحكومة فرضها منذ البداية.. وربما أكثر قليلاً.. ليتحول الشعور بالظلم.. إلى شعور بالرضا الزائف.. وكأن المواطن قد خرج منتصراً من معركةٍ وهمية.. وفي الواقع كان الخاسر الأكبر.. وبأكثر مما كانت الحكومة تريده..
هذا المثال.. ليس إلا نموذجاً بسيطاً لما يمكن أن تفعله الحكومات.. أو الدول في تشكيل الرأي العام.. إنها لعبة الإيحاء والإيهام.. تُديرها ببراعة.. من خلال الإعلام والسياسة النفسية.. فحين ترغب دولة ما.. بتمرير قانون مثير للجدل.. تزرع فكرة أكثر تطرفاً في النقاش العام.. تراقب الغضب وهو يتصاعد.. ثم تُطلق مبادرة "معتدلة".. تبدو في ظاهرها استجابة لضغط الشارع.. لكنها في جوهرها.. تحقيق لما أرادته منذ البداية.. فيخرج الجميع وقد خُدِعوا.. يظنون أنهم حصلوا على الأفضل.. بينما الحقيقة أنهم لم يحصلوا إلا على القليل مما يستحقونه..
هذه الآلية لا تقتصر على الأسعار والقوانين.. بل تتغلغل في كل مناحي الحياة.. ففي قضايا الفساد مثلاً.. يتم تضخيم قضايا صغيرة.. لمعاقبة مسؤولين صغار.. تُعرض أسماؤهم.. وتفاصيل قضاياهم على الملأ.. وكأن العدالة قد أخذت مجراها.. وفي الوقت ذاته.. تُدار الأضواء بذكاء.. بعيداً عن قضايا أكبر وأعمق.. متورط بها مسؤولون من مستويات عليا.. ليبقى المواطن في حالة رضاً زائف.. ظناً منه.. أن العدالة قد تحققت.. بينما الفساد الحقيقي.. يظل محمياً ومستتراً..
وفي السياسة الدولية.. تُبرر الحروب بحجج واهية.. ثم تُقدم مبادرات "سلام" تُرضي الأقوياء.. بينما تُهمل حقوق الشعوب وقضاياهم العادلة.. تُستخدم هذه الاستراتيجيات لإدارة الأزمات بشكل لا يخدم إلا الأقوياء.. بينما تُشعر الشعوب بأنها قد حققت مكاسب.. أو تراجعت الخسائر.. في حين.. أن الواقع لا يحمل لهم سوى مزيد من المعاناة..
وفي الحياة اليومية.. الأمثلة أكثر وضوحاً.. ففي قطاع التعليم مثلاً.. تُعلن الحكومات عن تحسينات في المناهج.. أو تحديث للمدارس.. مع وعود براقة عن تطوير العملية التعليمية.. بينما يتم تجاهل الأزمات الحقيقية.. التي يعاني منها القطاع.. مثل نقص المعلمين.. وضعف البنية التحتية.. ليبقى الجوهر الحقيقي للمشكلة بلا معالجة.. ويشعر المواطن أن هناك تقدماً وهمياً.. بينما تتفاقم التحديات على أرض الواقع..
وفي القطاع الصحي.. فتُسلط الأضواء على افتتاح مراكز طبية.. أو مستشفيات جديدة.. تُصور كإنجازات كبرى تخدم المواطن.. لكنها في حقيقتها مجرد قشور.. لا تمس جوهر الأزمة.. إذ تبقى مشاكل نقص الأدوية.. والكوادر الطبية الماهرة.. دون حلول جذرية.. وكأن هذه الإنجازات.. مجرد مسكنات لإرضاء المواطن على المدى القصير.. بينما تتسع الفجوة بين الواقع والتوقعات..
إن هذا الشعور الزائف ليس مجرد حالة عابرة.. بل استراتيجية متقنة.. تجعل المواطن يعيش في وهم الإنجاز.. وهو في الحقيقة.. يغرق أكثر فأكثر في بحر الأزمات..
ويبقى السؤال العميق.. إلى متى ستبقى الشعوب أسرى لهذه اللعبة؟!..