تأملات في مسيرة "الإسلام السياسي"
د.أحمد بطاح
23-01-2025 11:39 PM
يمكننا القول بقليل من المجازفة أنّ "الإسلام السياسي" بدأ في العصر الحديث مع ظهور حركة "الإخوان المسلمون" على يد الإمام حسن البنا في مصر عام 1928، وقد رأت الحركة في بداياتها أنّ أفضل السبل لبناء دولة إسلامية هي بناءً "المجتمع المسلم" أولاً من خلال التربية والتهذيب، ومع أنها وضعت على شعارها "السيف والمصحف" وعبارة "وأعدوا" إلّا أنها كانت حركة سلمية إلى درجة أنّ مؤسسها قال عندما سمع بأنّ اُناساً من جماعته اغتالوا الإمام "الخازندار" في أواخر خمسينيات القرن الماضي بأنّ هؤلاء "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين".
لكن الانعطافة الفكرية الكبرى في تاريخ الحركة وفي مسار "الإسلام السياسي" في الواقع كانت في ظهور "سيد قطب" الذي آمن بمفهوم "الحاكمية لله وحده" وبنى عليها بأن المجتمعات الإسلامية المعاصرة هي مجتمعات "كافرة" (أنظر كتابه معالم في الطريق)، الأمر الذي أبرز ظاهرة "القطبية" (نسبة إلى سيد قطب) وأدّى إلى ظهور حركات "جهادية" بدأت "بالتنظيم الخاص" للإخوان وتطور إلى حركات كثيرة تسمت بأسماء عديدة مثل "السلفية المقاتلة"، و"السلفية الجهادية"، وقد كان من بواكير عملها في مصر مهاجمة الكلية الفنية العسكرية، واغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في عام 1981. غير أن التطور الأبرز الذي شهدته هذه الحركات كان تأسيس تنظيم "القاعدة" في أفغانستان على يد أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري والذي كلّل نشاطاته بمهاجمة مركز التجارة العالمي في نيويورك فيما عُرف لاحقاً بأحداث 11 سبتمبر 2001، والتي أدت بدورها إلى غزو افغانستان وطرد حركة "طالبان" منها (بحجة إيواء بن لادن)، كما أدت لاحقاً إلى غزو العراق في حرب الخليج الأولى في عام 1990، ومن ثم في عام 2003.
لقد تميزت "القاعدة" بانتشارها في عدة بلدان وبخاصة بعد هزيمتها في أفغانستان، وبالذات في إفريقيا (بوكو حرام)، وفي اليمن وغيرها، إلّا أنها عجزت عن تأسيس "دولة" تطبق فيها نظريتها في الحكم الإسلامي، الأمر الذي تبنته ونجحت فيه ولو إلى حين (من عام 2014- 2017) حركة "داعش" الذي كان يسمي نفسه "الدولة الإسلامية في العراق وسوريا"، ومن ثم "تنظيم الدولة" حيث أعلن الخلافة على يد "أبو بكر البغدادي" ماداً نفوذه على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق.
إن المُلاحظ على بروز "تنظيم الدولة" من رحم "القاعدة" أنه لم يكن بروزاً ميسوراً بل كان "ولادة قيصرية" في الواقع حيث تفاقم الخلاف بينهما حد الصدام العسكري، ويمكن القول بأن "تنظيم الدولة" قد انكسر عسكرياً وانكفأ إلى البادية السورية مع وجود أنصار متفرقين له في العديد من البلدان، أما تنظيم "القاعدة" فقد انحسر بشكل ملحوظ وبخاصة بعد مقتل قادته التاريخيين مثل أسامه بن لادن، وأيمن الظواهري.
إنّ "الإسلام السياسي" تجلى في عدة أشكال سياسية مستفيداً من "الربيع العربي" حيث فاز الإخوان المسلمون في مصر بالرئاسة (الدكتور محمد مرسي)، كما فاز حزبهم (حزب النهضة) في تونس، وكذلك في المغرب، وغني عن القول أن جميع هذه الانتصارات قد انتكست، ففي مصر شهدت البلاد مظاهرات ضخمة ضد الرئيس مرسي وحزبه حيث ساندها الجيش، وانتهى الأمر بعزله من الرئاسة، وفي المغرب خسر الحزب بزعامة "عبد الإله بن كيران" الانتخابات، وكان أخر هذه الانتكاسات في تونس حيث خسر حزب النهضة السيطرة على الحكومة مكتفياً بالبرلمان، الأمر الذي لم يصمد طويلاً هو الآخر وذلك عندما استولى الرئيس "قيس سعيد" على نظام الحكم وركز جميع السلطات في يديه.
ولعلّ الأمر الطريف هو أنه في حين انتكس "الإسلام السياسي" المعتدل نجح "الإسلام الجهادي" في الوصول إلى السلطة في سوريا ولكن مع نقلة كبيرة في الطروحات إذْ لا يستطيع أحد أن ينكر أن جذور حركة "هيئة تحرير الشام" وزعيمها "أحمد الشرع" تعود إلى "القاعدة" حيث تغير الاسم من "القاعدة" إلى "النصرة" إلى "هيئة تحرير الشام" مع ملاحظة ما ترتب على ذلك من حصر نشاط هذا التنظيم الجهادي الأصل في سوريا فقط (بعيداً عن البعد الإسلامي العالمي)، والبدء في إجراءات ديمقراطية لتأسيس نظام سياسي مدني جديد من خلال مؤتمر وطني يضم جميع مكونات الشعب السوري، ثم دستور يُقر في استفتاء عام، ثم انتخابات شعبية تفرز قيادة جديدة تتمتع "بالمشروعية".
إن هذه الطروحات لهذه الحركات الجهادية (هيئة تحرير الشام وأخواتها) يعني فعلياً بدء مراجعة حقيقية لمفهوم "الإسلام السياسي"، وتصالحه مع روح العصر حيث تُعتبر "الديمقراطية" بالمفهوم الليبرالي الغربي "دين العصر".
إنّ التحدي الحقيقي الحالي أمام الإسلام السياسي هو تجاوز النظرة التقليدية لمنهج الحكم في الإسلام، والإفادة من تراث البشرية في فن الحكم مع الإبقاء على الثوابت والمرجعيات الإسلامية. إن هذا الواقع ليس من شأن تنظيمات الإسلام السياسي فقط بل من شأن كل إنسان مسلم يريد حكماً إسلامياً عصرياً ينبع من التراث الإسلامي ولكنه يتواصل مع العصر ويستقي منه.