تُقاس عظمة المجتمعات بما تؤسّسه من منظومات قيمية وأخلاقية تجعلها قادرة على الصمود في وجه التحولات، والتفاعل مع العالم دون أن تفقد ذاتها. فالمجتمع الذي يملك من الرصيد الحضاري ما يجعله واثقًا بنفسه، لا ينشغل بإقصاء الآخرين أو التشكيك في هويتهم، بل يسعى إلى تثبيت أركانه وتعزيز وجوده عبر البناء الحقيقي، لا عبر صناعة العداوات أو اختلاق الصراعات الوهمية.
ففي المشهد العالمي الراهن، تتباين المجتمعات في نظرتها إلى القوة ومعايير التفوق، فهناك دول تظن أن عظمتها تُقاس بمدى قدرتها على فرض إرادتها بالقوة والغطرسة، معتبرة أن السيطرة والتفوق العسكري والاقتصادي هي السبل الوحيدة لإثبات وجودها. هذه المجتمعات، رغم ما تمتلكه من وسائل الهيمنة، تعاني من خواء داخلي، إذ تقوم فلسفتها على فرض ذاتها عبر القهر لا عبر الإقناع، وعلى الهيمنة لا على التفاعل الإيجابي مع الآخر. وتكمن المفارقة في أنّ هذا النمط من التفكير يعكس هشاشة داخلية أكثر مما يعكس قوة حقيقية، إذ أن المجتمع الراسخ حضاريا يرى في التنوع والاختلاف فرصة لإثراء تجربته وتعزيز مكانته بوسائل أكثر رسوخًا من مجرد فرض السطوة على الآخر.
وعلى أفق آخر، هناك مجتمعات تدرك أن القوة تكمن في القدرة على بناء قيم إنسانية مشتركة، وعلى إقامة منظومات قابلة للتفاعل والنماء. وهذه المجتمعات ترى في غيرها شريكًا يمكن التفاعل معه لبناء عالم أكثر توازنًا. وهي مجتمعات تستثمر في الإنسان، وفي التعليم، وفي البحث العلمي، وفي مدّ الجسور بدلاً من تشييد الجدران. وتدرك أن العظمة الحقيقية تأتي من خلق بيئة مستدامة تُثري الجميع، لا من استنزاف الآخرين أو السعي إلى إخضاعهم.
وقد أثبتت التجربة التاريخية أن المجتمعات التي بنت حضاراتها على أسس من الانفتاح والتفاعل هي التي استطاعت الصمود، فيما سقطت تلك التي جعلت من القوة، وسيلة وحيدة لفرض وجودها. وأن الحضارات العريقة التي خلّدت أسماءها في التاريخ هي تلك التي استطاعت أن تستوعب التنوع الثقافي، وأن تبني جسور التفاهم والحوار.
إن النموذج الذي يجعل القيم الأخلاقية أساسًا لقوة المجتمع هو النموذج الوحيد القابل للاستمرار، لأن القيم حين تكون منسجمة مع الفطرة الإنسانية، تتحول إلى طاقة دافعة نحو الازدهار الحقيقي، بينما المجتمعات التي تبني قوتها على القهر سرعان ما تجد نفسها محاصرة بعداء الآخرين، وبحتمية الانهيار من الداخل.
إنّ المعادلة التي تحكم ازدهار الأمم لم تتغير عبر العصور: القوة المستندة إلى العدل تبني الحضارات، بينما القوة المجردة من القيم تهدمها. والمجتمعات التي توازن بين مصالحها ومصالح غيرها، وتدرك أن وجودها لا يكتمل إلا بوجود الآخرين، هي التي تملك مفاتيح المستقبل، بينما تلك التي لا ترى إلا ذاتها وتفرض رؤيتها بالقسر، فقد حكمت على نفسها بالعزلة والتراجع حتى وإن بدت اليوم في أوج صعودها.
إنَّ المجتمعات التي تعي ذاتها وتستمد قوتها من إرثها العميق لا تجد حاجة إلى التعويض عن نقصها بالصخب أو الادعاء، بل تنصرف إلى ما يعزز مكانتها بعمل صادق ورؤية واضحة. فهي لا تحتاج إلى تضخيم إنجازاتها أو تسويق صورتها بأساليب زائفة، لأنّها تدرك أن قيمتها تنبع من جوهرها، لا من مظاهرها. مثل هذه المجتمعات تتحرك بهدوء الواثق، لا بضجيج المرتبك، تبني حضورها بجهد متراكم، ولا تلجأ إلى استعراض القوة كبديل عن امتلاكها الفعلي. فالمسألة تتجاوز فكرة التفوق المادي أو السيطرة العسكرية إلى معادلة أعمق تتصل بمفهوم الشرعية الحضارية التي لا تقوم على الاستلاب أو التقويض، وإنما على صناعة نموذج تتجسد فيه القيم العادلة، ويجد فيه الجميع مكانًا للانتماء دون إقصاء. إن قيادة العالم لا تعني فرض الهيمنة عليه بوسائل البطش، والاستعلاء، واختلاق أُمّة وإقصاء أخرى، وإنما بالقدرة على خلق منظومة قبول تتيح التفاعل الحر بين الشعوب، وتفتح المجال لمقاربة عادلة للفرص بين سكان الكوكب، بحيث لا تكون القوة أداة لمراكمة الامتيازات لدى فئة على حساب أخرى، بل ضمانة لتحقيق توازن يُفضي إلى نهضة أممية شاملة. فالقوة التي لا تضمن العدالة ليست سوى شَرَكٍ مؤقت تنصبه المجتمعات لنفسها، إذ أن الاستلاب الحضاري يولد مقاومة، والإقصاء يراكم أسباب السقوط، فيما يكون البناء القيمي هو الضامن الحقيقي للشرعية التي تصمد في وجه التحولات. لا تكتسب أمة شرعية ريادتها عبر إخضاع الآخرين، بل عبر جعل نموذجها موضع اعتراف وإجماع، بحيث لا يحتاج إلى فرضه بقوة السلاح، بل يجد سبيلاً إلى الامتداد عبر الاقتناع والاحتواء.
الشرعية القيمية تسبق المادية، لأنها وحدها القادرة على جعل الحضور مستدامًا، والنفوذ طبيعيًا لا قسريًا. فالمجتمعات التي تستند إلى العدل لا تخشى التفاعل مع غيرها، ولا تشعر بالحاجة إلى خلق صراعات مصطنعة لتبرير قوتها، بل تعمل على تمكين الجميع من موقع متكافئ في إطار إنساني جامع. إن أية محاولة لفرض السيادة دون هذا الإدراك العميق لحتمية العدل، ستؤدي في النهاية إلى إرباك النموذج ذاته، إذ لا يمكن لأي قوة أن تستمر وهي تناقض أسس الشرعية التي تبرر وجودها.
إن العالم اليوم، رغم كل مظاهر الحداثة، لا يزال أمام السؤال القديم نفسه: هل القوة تكفي لصناعة الريادة، أم أن العدل وحده هو الذي يمنحها استمراريتها؟ والجواب، كما أثبتته تجارب التاريخ، أن ما يُبنى على القهر لا يدوم، وأن الأمم التي تعتقد أن شرعيتها تأتي من فرض الأمر الواقع، سرعان ما تجد نفسها محاصرة بانهيارات داخلية تسبق أي تهديد خارجي. وحدها الحضارات التي تقود بمزيج من الحكمة والعدل والتكافؤ، هي التي تصنع امتدادها الحقيقي، لأن السيادة لا تُشترى بالقوة، بل تُبنى برصيد من القيم لا يخضع للمساومة. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ المجتمعات التي تعاني من خواء حضاري أو ارتباك في هويتها، تحاول سدّ هذا الفراغ بالثرثرة الجوفاء وبناء هالات زائفة من القوة، متوهمة أن الشعارات تستطيع أن تغني عن المنجزات الحقيقية. وهي إذ تدرك في قرارة ذاتها ضعف أسسها، تلجأ إلى تضليل ذاتها قبل الآخرين، مستعيضة عن التقدم الفعلي بالمظاهر الاستعراضية التي لا تصمد أمام التحديات الحقيقية. إنّ الخواء الحضاري، حين يترافق مع فائض القوة والثروة، يتحول إلى أداة هدم بطيء، إذ يغري المجتمعات بالركون إلى حالة من الاستعلاء الزائف، حيث يُنظر إلى الإمكانات المادية كبديل عن العمق الثقافي والرصيد الأخلاقي، وتُستغل الموارد في صناعة واجهة تخفي التآكل الداخلي بدلاً من معالجته. وفي مثل هذه الحالات، تبدو المكاسب المؤقتة براقة، لكنها في حقيقتها سرابٌ يستهلك الأمة أكثر مما يبنيها، إذ إن الفائض المالي والقوة الغاشمة، حين لا تكون مسنودة برؤية حضارية متزنة، تتحول إلى أدوات إفراط واستنزاف، تُسرّع عملية التفكك بدلاً من أن تمنح القوة الحقيقية.