facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




في يوم اللغة الشيشانية


الدكتور سمير بينو
24-04-2025 04:04 PM

اللغات ليست مجرد وسائل للتواصل، بل هي مفاتيح لفهم الإنسان، وتاريخه، وثقافته، ورؤيته للعالم. فهي أنظمة صوتية ورمزية طوّرتها المجتمعات البشرية عبر العصور، للتعبير عن الأفكار والمشاعر والعلاقات والتجارب والهوية.

ورغم اختلاف اللغات في بنيتها، ومفرداتها، وقواعدها، وأصواتها، إلا أنها جميعًا تؤدي الوظيفة ذاتها؛ ربط البشر بعضهم ببعض، وصون الذاكرة الثقافية والحضارية. ويُقدَّر عدد اللغات الحيّة في العالم بأكثر من7000 لغة، وهو رقمٌ يعكس غزارة وتنوّع الإرث الثقافي والإنساني بين الشعوب، وتعدّد زوايا الرؤية والتعبير عن الوجود.

هذا التنوع اللغوي، رغم ما يواجهه من تحديات وتراجع في بعض اللغات، لا يزال يُشكّل كنزًا إنسانيًا وثقافيًا ثمينًا، يُعبّر عن غنى التجربة البشرية، وتعدد طرق النظر إلى العالم.

ومن بين هذه اللغات التي اختزنت في كلماتها تاريخًا طويلًا من الصراع والصمود، تبرز اللغة الشيشانية بوصفها شاهدًا حيًّا على قدرة اللغة على البقاء، حتى في أقسى ظروف التهجير، والنفي، ومحاولات الإبادة والطمس.

في هذا السياق، يُصادف يوم 25 أبريل من كل عام "يوم اللغة الشيشانية"، وهو يوم أُقرّ رسميًا في جمهورية الشيشان للاحتفاء بهذه اللغة العريقة، والتأكيد على دورها المحوري في الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية للشعب الشيشاني، لا سيما بعد ما تعرضت له عبر العقود من محاولات طمس وتهميش.

يُمثّل هذا اليوم مناسبةً حيّة لإحياء الأدب الشيشاني، وتشجيع الأجيال الجديدة على إتقان اللغة الأم، وتنظيم فعاليات ثقافية تشمل الشعر، الغناء، الحكايات الشعبية، والأنشطة المدرسية، لترسيخ اللغة في الوجدان، وضمان استمرارها كرمز للانتماء والكرامة والوجود.

تُعد اللغة الشيشانية واحدة من اللغات القوقازية الشمالية الشرقية، وتحديدًا من فرع الناخ (Nakh)، الذي يشمل أيضًا اللغتين الإنغوشية والبَتسية. وتتميّز هذه العائلة اللغوية ببُنى لغوية وصوتية فريدة، لا تُشبه أي عائلة لغوية كبرى أخرى، ما يجعلها فرعًا استثنائيًا في خارطة اللغات البشرية.

وتُعد الشيشانية من بين أكثر اللغات تعقيدًا من حيث البنية والمضامين والدلالات، لكنها في جوهرها ليست مجرد تركيب نحوي أو نظام صرفي معقّد، بل لغة تروي "تاريخ الحرية، وتجسّد مبادئ الكرامة، وأصول الشجاعة. ففي كل تعبير، وفي كل مثل، وفي كل نمط مخاطبة، تختبئ قرونٌ من الحكمة، والاحترام، والصمود، وكأنها مرآة تنعكس فيها روح الجبال، وذاكرة الأمة، وصوت الذين لم ينكسروا".

يتحدث الشيشانية اليوم ما يُقارب 1.5 مليون نسمة داخل جمهورية الشيشان، إلى جانب أعداد كبيرة من المتحدثين في المهجر المنتشر في الأردن، تركيا، أوروبا، ومناطق أخرى حول العالم.

تُكتب اللغة الشيشانية اليوم بالأبجدية الكيريلية، أو كما تُعرف أيضًا بـ السيريلية (Cyrillic)، والتي تم تطويرها خصيصًا لتناسب أصوات اللغة الشيشانية. وتتكوّن هذه الأبجدية الحديثة من49 حرفًا، أُعدّت لتواكب البيئة التعليمية والإدارية في جمهورية الشيشان. في حين لا يزال شيشان الأردن يتداولون لغتهم الشفوية باستخدام النطق الأصلي القائم على الحروف التقليدية وعددها45 حرفًا، وهو ما يعكس تمسكهم العفوي والمتجذّر بلهجتهم الأصلية وطرق نطقها كما انتقلت من الأجداد. وقد عرفت الشيشانية عبر تاريخها أنظمة كتابة متعددة، منها الأبجدية العربية (خصوصًا في السياقات الدينية والتعليمية)، ثم اللاتينية لفترة محدودة، قبل أن تستقر على الكيريلية في الحقبة السوفييتية.

وعلاوة على تلك الخصائص البنيوية، فإن اللغة الشيشانية تحمل في طياتها أبعادًا فكرية، وثقافية، وإنسانية عميقة، وتختزن في كلماتها تجارب شعبٍ صمد قرونًا طويلة في وجه الغزوات والحروب، متمسكًا بهويته، رافعًا صوته رغم النفي والتشتيت. إنها تاريخ أمةٍ عبرت المحن والتحولات، من أعماق الجبال إلى دروب الشتات، ومن النفي إلى صحراء الجليد، ومن المقاومة إلى محارق الاحتلال والإبادة.

تعرضت اللغة الشيشانية، عبر تاريخها، لمحاولات متكررة للطمس والإلغاء، لم تقتصر على الحروب، بل شملت محاولات الإذابة القسرية داخل أنظمة تعليمية ولغوية بديلة، خصوصًا منذ التهجير في أواخر القرن التاسع عشر، والنفي الجماعي عام 1944 إلى سيبيريا وكازاخستان، حيث حُظر استخدامها، واستُبدلت بلغات أخرى في المدارس والإعلام.

ومع ذلك، لم تمت اللغة، لأن ما لا يُقال في الكتب، كان يُهمَس به في العتمة، ويُتلى سرًا في الأناشيد، ويُعلَّم في احضان الأمهات. لقد نجت الشيشانية لأنها كانت محفوظة في القلوب، تُنقل بالدعاء والحكاية، باللحن والدمعة، كما تُنقل الحياة.

ينتشر الشيشان في العديد من دول العالم، وأينما حلّوا، كانوا حريصين على الحفاظ على لغتهم وهويتهم الثقافية. ويُعد شيشان الأردن من بين أكثر المجتمعات الشيشانية في المهجر حفاظًا على اللغة الشيشانية، حيث يعيشون في ظل أوضاع مستقرة وكريمة، يتمتعون فيها بكامل حقوقهم، ويندمجون بوعي واعتزاز في نسيج الدولة الأردنية، مع الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية واللغوية التي يُجلّها المجتمع الأردني ويحترمها. وهذا المناخ الداعم هو ما جعل اللغة الشيشانية تعيش في الأردن بكرامة، حيّة نابضة، لا تُنسى ولا تُمحى.

ومع أننا نحتفل بلغتنا الشيشانية في كل كلمة ننطقها، وفي كل دعاء نهمس به بصدق، وفي كل حكاية نرويها عن تاريخ الشيشان، وفي كل مثل نستشهد به من حكمة الأجداد... إلا أننا نخصّها في الخامس والعشرين من نيسان من كل عام باحتفال لنقول؛ اللغة ليست مجرد كلمات، بل ارث نحمِلُه في أصواتنا، وذاكرة تنبض في قلوبنا.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :