سوريا .. الى اين تتجه البوصلة؟
محمد حسن المومني
14-05-2025 12:07 AM
حين سئلت مؤخرا عن وجهة الادارة السورية الجديدة، لم اجب بانطباع شخصي، ولا برغبة ايديولوجية، بل بقراءة هادئة للمشهد الاقليمي وما يطرأ عليه من تحولات. وقلت حينها بوضوح: القرار السياسي في دمشق قد حسم باتجاه اعادة التموضع ضمن الفضاء العربي، من بوابة التفاهمات السياسية والاقتصادية، لا من شعارات المقاومة والتحرير.
اليوم، جاء اعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا من العاصمة السعودية الرياض، ليؤكد هذه القراءة بما لا يدع مجالا للتأويل. فالحدث ليس في القرار فحسب، بل في مكان الاعلان وتوقيته ومضامينه. الاعلان من الرياض هو بحد ذاته رسالة، بان الوساطة السعودية نجحت في اعادة سوريا الى الحاضنة العربية، بعد سنوات من الارتهان لايران، وبعد ان تم تفكيك ما كان يعرف بمصطلح "وحدة الساحات"، الذي طالما استخدم لتبرير الارتباطات العابرة للحدود على حساب السيادة والقرار الوطني.
ولم يعد هذا التحول محصورا في المؤشرات الدبلوماسية او التقديرات السياسية، بل اصبح معلنا على لسان مسؤولين رسميين. فوزير الاقتصاد السوري نضال الشعار، خاطب الرئيس الاميركي على شاشة "العربية" قائلا: "شكرا سيدي الرئيس، انت رجل عظيم". عبارة لا يمكن فصلها عن السياق العام لاعادة صياغة الخطاب السوري، الذي بات يخلو من مفردات "الشيطان الاكبر" و"العدو الصهيوني" و"الممانعة والمقاومة"، ليحل مكانها قاموس جديد يرتكز على المصالح والضمانات والتفاهمات.
التحول في وجهة البوصلة السورية لم يتوقف عند حدود اللغة، بل تجسد في تقديم رسائل وضمانات واضحة الى اللاعبين الاقليميين والدوليين، وعلى راسهم المملكة العربية السعودية وتركيا، اضافة الى رسائل غير مباشرة موجهة الى اسرائيل والولايات المتحدة، سواء عبر قنوات معلنة او وسطاء معروفين.
هذا المشهد يستدعي وقفة، خصوصا من اولئك الذين كانوا -وما زال بعضهم- يروجون لفكرة ان سوريا الجديدة ستكون قاعدة انطلاق نحو "تحرير فلسطين"، وان خطابها الجديد هو مجرد مرحلة مؤقتة ضمن مشروع اكبر! اولئك الذين اتهمونا يوما باننا نستعجل الحكم، ونظلم "القيادة الشابة" ونحاكمها قبل ان تنجز، عليهم اليوم ان يعيدوا قراءة الواقع بلغة الوقائع، لا الاماني، وبميزان السياسة، لا الشعارات.
هؤلاء الغارقين في وحل الوهم، الذين ما زالوا يظنون ان الدولة تبنى بشعارات الميليشيا، وان رفع الصوت يكفي لاعلان النصر، هم انفسهم الذين اتهمونا يوما بالتشكيك والتخوين، حين قلنا ان مشروع الدولة لا يدار بالعواطف ولا بالارادات الفردية، بل بالمؤسسات والاتساق والقراءة الواقعية للتحولات.
انهم لا يفقهون كيف تدار الدول الحديثة، ولا يدركون ان السياسة اليوم تقوم على موازين وتحالفات دقيقة، وحسابات اعقد بكثير من فكرة "خطاب جماهيري ملتهب" او "صورة قائد على جدار". يغلبهم الحنين، فتغيب عنهم ادوات التحليل. ويتكئون على اسقاطات من كتب التاريخ لا تناسب لا الزمان ولا المكان. ولانهم اسرى الايديولوجيا، فانهم يسارعون الى تخوين كل من يغلب لغة المنطق والعقل، ويصر على ان يبني مواقفه على حقائق الحاضر لا على احلام الموروث.
لقد قلنا مرارا: لسنا ضد طموحات الامة، بل ضد العبث بمصيرها باسم تلك الطموحات. نحن لا نرفض "التحرير"، بل نرفض ان يختطف الوعي والعقل والتوازن. وها هي الوقائع تتحدث الان، لا نحن. فحين تقف دمشق على ابواب الرياض، وتغلق خلفها ابواب طهران، وحين توجه الشكر لترامب لا لقيادة "محور المقاومة"، فمن حقنا ان نسأل اولئك الواهمين: اين ذهبت كل نظرياتكم؟ ومن سيحاسبكم على سنوات من التخوين والتزييف والتشويه؟
اننا لا نشمت، ولا نصفي حسابا مع احد. ولكننا نذكر بان العقل لا بد ان يعود، وبان المنطقة لم تعد تحتمل المزيد من الوهم والتضليل. فاما ان نعترف بالتحول، ونتعامل معه بوعي، او نستمر في العيش داخل فقاعة صوتية، نخدع بها انفسنا اكثر مما نخدع بها العالم.