من جنيف إلى الشرق الأوسط: الغطرسة الأمريكية في اختبار جديد
محمد حسن المومني
20-06-2025 12:33 AM
عندما أعود بالذاكرة إلى شتاء عام 1991، تحديدا إلى مشهد اللقاء الشهير بين جيمس بيكر وطارق عزيز في جنيف، تتجلى أمامي صورة صارخة للعنجهية الأمريكية التي كانت تطبع السياسة الخارجية لواشنطن في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. بيكر، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية الأمريكية، خرج حينها عن كل الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية، موجها إنذارا واضحا ومباشرا إلى العراق، دون مواربة أو اعتبارات لموقع الطرف الآخر. كان ذلك السلوك رسالة مضمونة الوصول: الولايات المتحدة تنفرد بالمشهد الدولي، وتتحرك من موقع السيد الآمر لا الشريك المتفاوض.
لم يكن ذلك الحدث معزولا، بل جاء في لحظة دولية حاسمة. تفكك الكتلة الشرقية، وانكفأت موسكو على أزماتها، وأوروبا كانت في طور التشكل الجديد، والعالم العربي منقسم وضعيف. أما الداخل العراقي فكان يعاني تصدعا سياسيا واقتصاديا بعد حرب طويلة أنهكته، ما جعل الغطرسة الأمريكية تمر دون مقاومة تذكر. لقد استثمرت واشنطن لحظتها التاريخية تلك لتكريس مبدأ الهيمنة عبر بوابة الحرب.
لكن من يراقب اليوم أداء الخارجية الأمريكية في التعامل مع التصعيد الخطير بين إيران وإسرائيل، قد يلحظ تكرارا لبعض المفردات القديمة، مع اختلاف جذري في السياق. صحيح أن الإدارة الأمريكية لا تزال تلوح بخيار القوة وتوجه الرسائل عبر الوسطاء، لكنها تفعل ذلك في عالم لم يعد يقبل بالقرارات المفروضة. بل إن الدول الحليفة لواشنطن نفسها باتت أكثر حذرا في تبني سياساتها، وأكثر استعدادا لرفض الإملاءات التي لا تراعي مصالحها.
الظرف الدولي اليوم لا يشبه تسعينيات القرن الماضي. التعدد القطبي أصبح واقعا، وإن كان غير مكتمل. الصين صاعدة بثبات، وروسيا عادت لتفرض كلمتها في أكثر من ملف، والتكتلات الإقليمية باتت تملك أوراق تأثير حقيقية. كما أن شعوب المنطقة أصبحت أكثر وعيا بالخرائط الحقيقية للمصالح والتحالفات، ولم تعد تنطلي عليها الشعارات الكبرى حول الديمقراطية و"الشرق الأوسط الجديد".
الخارجية الأمريكية، التي تطلب اليوم من إسرائيل التريث لإعطاء فرصة للوسيط الأوروبي بالتمهيد لمفاوضات مع إيران، تدرك أن استخدام القوة وحده لم يعد كافيا لتشكيل التوازنات، وأن "صناعة الشرعية الدولية" باتت أكثر تعقيدا في ظل تراجع الثقة العالمية بالمعايير المزدوجة.
صحيح أن لغة الإنذارات لا تزال حاضرة في مفردات السياسة الأمريكية، لكن العالم تغير. لم تعد الطاولات تقلب بقبضة واحدة، ولا الجبهات تفتح بكلمة وزير. ومن يظن أن التاريخ قابل للاستنساخ، غالبًا ما يكتشف أن اللحظة قد خانته، وأن الشعوب لم تعد على استعداد للدفع من أمنها واستقرارها مقابل رهانات القوة العمياء.