فوضى الألقاب الإعلامية: عندما نصل إلى مرحلة "شو بتحب نعرف عنك!"
د. جهاد كمال فريج
03-07-2025 07:28 PM
في المشهد الإعلامي الأردني اليوم، لم تعد ظاهرة "فوضى الألقاب" مسألة عابرة أو استثناءً نادرًا، بل تحوّلت إلى سلوك متكرر يتسلل إلى البرامج الحوارية، والنقاشات العامة، وحتى البرامج الخفيفة والمنوعة التي تُبث عبر الشاشات أو أثير الإذاعات، وأصبح ظاهرة أشبه بفيضان ألقاب يُغرق المشهد الإعلامي ويُربك الجمهور. ومن المثير للقلق أن تُمنح الألقاب مثل "الخبير"، أو "المحلل السياسي"، أو "الاستشاري الاقتصادي"، لأشخاص يظهرون في وسائل الإعلام دون مرجعية معرفية أو مهنية واضحة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حقيقية حول مسؤولية المؤسسات الإعلامية، وجدّية معايير الاختيار، وحدود الاحترام لوعي الجمهور.
اللافت أن بعض هذه الألقاب تُمنح ببساطة، من دون أي تحقق من الخلفية الأكاديمية أو الخبرة العملية للضيف. يكفي أحيانًا أن يكون الشخص معروفًا على وسائل التواصل الاجتماعي، أو يمتلك أسلوبًا في الحديث، أو ببساطة متاحًا في الوقت الذي يبحث فيه فريق الإعداد عن ضيف مناسب، والأدهى والأمر هو سؤال الضيف (شو بتحب نعرف عنك؟) وكما لو أن اللقب يُعطى ولا يُستحق. بهذه السهولة، يتحوّل الحديث العام إلى مساحة مفتوحة لمن يتقن الظهور، لا لمن يمتلك الفهم.
من المهم التوقف عند معنى "الخبير" قبل التهاون في استخدامه. في التقاليد الأكاديمية أو المهنية، لا يُمنح هذا اللقب إلا لمن امتلك معرفة متخصصة ناتجة عن مسار طويل من الدراسة، والتجربة، والانخراط في قضايا المجال الذي يتحدث فيه. معهد Oxford Review، على سبيل المثال، يعرّف الخبير بأنه الشخص الذي يمتلك معرفة عميقة في مجال محدد، اكتسبها من خلال التعليم، والممارسة العملية المستمرة، والمساهمة في تطوير هذا المجال عبر البحث أو التطبيق أو الاستشارة. بهذا المعنى، لا يكفي أن يكون المرء مطّلعًا أو متحدثًا لبقًا أو حاضرًا في الإعلام، بل يجب أن يُثبت أهليته بالتراكم العلمي والعملي، لا بالظهور العرضي أو العلاقات العامة.
في المقابل، الإعلامي - وفق تعريف منظمة اليونسكو - هو من يمارس عملًا إعلاميًا بشكل منتظم، ضمن منظومة مهنية تخضع لأخلاقيات المهنة، ويستند إلى مصادر موثوقة، ويؤدي دوره في نقل المعلومات وتحليلها بشكل موضوعي ومسؤول. لكن حين تتحول الساحة إلى من يرفع صوته أكثر أو من يكتسب مشاهدات أعلى، فإن هذه التعريفات تصبح نظرية في مقابل مشهد يعجّ بالألقاب الفارغة والمظاهر الخادعة.
المشكلة لا تتوقف عند مستوى الألقاب فحسب، بل تمتد إلى ما يترتب على هذه الادعاءات من تضليل للمتلقي. إذ يصبح من الصعب على المشاهد أو المستمع أن يميّز بين صاحب الخبرة الحقيقية، ومن يتقن تكرار المصطلحات أو بناء الانطباعات. كما أن هذا التراخي في معايير الاختيار يمنح من لا يمتلك المؤهلات فرصة التأثير في الرأي العام، وربما تشكيل مواقف الناس تجاه قضايا عامة وحساسة، دون أن يكون قد خضع لأي مساءلة معرفية أو مهنية.
والأخطر أن هذه الحالة تساهم، بشكل غير مباشر، في تهميش الأصوات الحقيقية والمتخصصة، التي غالبًا ما تُقصى لأن أصحابها لا يسعون إلى الأضواء أو لا يمتلكون القدرة أو الرغبة في التسويق الذاتي. فبدلًا من أن تكون البرامج الإعلامية منابر لعرض الرأي المدروس، والقراءة الواعية، أصبحت في بعض الأحيان ساحة لعرض الذات، وترويج الصورة، وتمرير الانطباع.
إن هذه الفوضى لا تنبع من غياب النية الحسنة دائمًا، بل أحيانًا من استعجال فرق الإعداد، وضعف التدقيق، واللجوء إلى الأسماء المتوفرة أو المتداولة دون التحقق. لكن النتيجة تبقى واحدة: إضعاف الرسالة الإعلامية، وتشويش وعي الجمهور، وتوسيع الهوة بين ما يُقال على الهواء، وما يستحق أن يُقال فعلًا.
إن إعادة الاعتبار لمكانة الإعلام تتطلب وقفة صريحة مع هذه الظواهر. المطلوب ليس الإقصاء أو التضييق على أحد، بل ترسيخ ثقافة مسؤولة في التعامل مع مفردات مثل "الخبير" و"الإعلامي"، بحيث تُستخدم في سياقها الصحيح، وتعكس مضمونًا حقيقيًا، لا صورة مصطنعة. كما أن على المؤسسات الإعلامية أن تتحمل مسؤوليتها في تدقيق هويات ضيوفها، والتمييز بين الوجاهة والتخصص، وبين الحضور الرقمي والمعرفة العميقة.
في زمن تتسارع فيه المعلومات، وتتنافس فيه الأصوات، تزداد الحاجة إلى إعلام يعلي من قيمة الحقيقة، ويحترم عقل المتلقي، ويمنح المنصة لمن يستحقها بمعايير مهنية، لا بمعادلات شعبوية أو حسابات تسويقية. وحده هذا الإعلام قادر على الصمود في وجه الضجيج، وعلى بناء رأي عام مستنير، في وقت تتكاثر فيه العناوين وتضيع المعايير.