الأردن أنموذجاً في إدارة التنوع وسط العواصف الإقليمية
ميس القضاة
11-07-2025 01:09 AM
في عالم تتسارع فيه التمزقات، وتتعمق فيه الهويات الفرعية حتى تغدو سيوفًا مسلطة على الرقاب، يشقّ الأردن طريقًا مختلفًا، ينسج عبره نسيجًا وطنيًا قوامه التعدد، وأساسه الاعتراف، وغاياته الاستقرار والنهضة. فبينما تعاني العديد من الدول من آثار الصراعات العرقية والطائفية التي تقوّض مؤسساتها وتنهش مجتمعاتها، يقف الأردن بوصفه استثناءً نادرًا في الجغرافيا العربية، يقدم نموذجًا عميقًا في إدارة التنوع الثقافي والديني والعرقي ضمن إطار دولة مدنية تحترم التعدد ولا تنكره، وتُعلي من قيمة الإنسان، لا من انتمائه الضيق.
لقد تشكل الأردن عبر مراحل من التحولات والهجرات والتداخلات، جعلته حاملًا لهوية معقدة غنية، ليست أحادية ولا مغلقة. فمنذ تأسيس إمارة شرق الأردن، كان المجتمع الأردني يتكوّن من أطياف متعددة: العشائر الأردنية الممتدة، اللاجئون الفلسطينيون، الشركس، الشيشان، الأرمن، والدروز، فضلًا عن موجات لاحقة من اللاجئين من العراق وسوريا، ومجتمع مسيحي-مسلم يتعايش منذ عقود طويلة. غير أن هذا التنوع لم يكن مجرد تعايش مصلحي أو صمت متبادل، بل تحوّل تدريجيًا إلى وعي وطني، يرى في التعدد مصدرًا للغنى الحضاري، وركيزة من ركائز الهوية الجامعة.
هذا التحوّل لم يكن ممكنًا لولا الدور المركزي الذي لعبته القيادة الهاشمية، التي أدركت منذ البدايات أن استقرار الدولة لا يتحقق بالقوة، بل بالحكمة؛ ولا بالبُعد الأحادي، بل بالشمول. لقد صاغت الدولة الأردنية، منذ عهد الملك المؤسس عبدالله الأول، فلسفة حكم تقوم على الإدماج، لا الإقصاء، وعلى التمثيل، لا الاحتكار. وسار على هذا النهج الملك الحسين بن طلال، الذي عُرف بحضوره الإنساني ورؤيته السياسية العميقة، واستمر هذا النهج مع الملك عبدالله الثاني، الذي رسّخ مفهوم الدولة الجامعة، عبر خطاب سياسي رصين، ومبادرات عالمية كرسالة عمّان، وأسبوع الوئام بين الأديان، والتأكيد الدائم على قيم الاحترام والمواطنة والمساواة.
وما يميز التجربة الأردنية ليس فقط أنها نجحت في منع الانفجار الداخلي في بيئة إقليمية شديدة التقلب، بل أنها أيضًا لم تسعَ إلى صهر المكونات في بوتقة واحدة، بل اعترفت بخصوصيتها، دون أن تسمح لها أن تتحول إلى جزر معزولة أو ولاءات متنافسة. فالمواطنة في الأردن ليست شعارًا نظريًا، بل إطار عملي يتجلى في تمثيل جميع الفئات في مؤسسات الدولة، وتكافؤ الفرص، وإحياء الرموز المشتركة التي تجمع لا تفرّق.
أما من الناحية الإقليمية، فإن ما يجعل النموذج الأردني أكثر عمقًا هو أن استقراره لم يكن ناتجًا عن عزلة أو نأي بالنفس، بل عن مواجهة مباشرة مع التحديات الكبرى. فقد فتح الأردن أبوابه لملايين اللاجئين، وتحمل أعباء ديمغرافية واقتصادية وسياسية هائلة، ومع ذلك لم تنهر منظومته الاجتماعية، ولم يتحول التنوع إلى تهديد، بل إلى اختبار للتماسك، خرج منه أكثر وعيًا بهويته وأكثر إدراكًا لرسالته.
وفي جوهر هذا كله يكمن فهم عميق لفلسفة الدولة: أن الوطن ليس ورقة إثبات شخصية، بل شعور عميق بالانتماء، لا يتأتى إلا من خلال الاعتراف، والعدالة، والاحترام المتبادل. فالتنوع، حين لا يُدار بعدالة، يتحول إلى وقود للنزاعات، لكنه في الأردن أُحسن استثماره، وأُدير بقيادة تفهم الإنسان وتثق بالمجتمع، وتؤمن بأن الهوية الوطنية لا تُبنى على الإلغاء، بل على الحوار والاحتواء.
إن التجربة الأردنية في التنوع لا تخلو من التحديات، لكنها تظل نموذجًا ناضجًا يمكن تعميمه، لا من حيث التفاصيل، بل من حيث الرؤية. فحين يُقدَّم الإنسان بوصفه القيمة العليا، وتنشأ علاقة الثقة بين الدولة والمجتمع، وتُبنى الهوية على التعدد لا على الاستثناء، يصبح التعايش ممكنًا، بل ضرورة وجودية.
ولعلنا في النهاية نستطيع أن نقول: إن الأردن لا يقدّم فقط وصفة فنية لإدارة التنوع، بل يحمل في قلب تجربته دعوة فلسفية أعمق، تؤمن بأن جوهر الإنسان يسبق انتماءه، وأن المجتمعات المتماسكة ليست تلك التي تُلغِي الفروق، بل التي تُديرها بوعي، وتحتضنها بمحبة، وتوظفها لبناء مستقبل أكثر إنصافًا واتزانًا.