حين تتحول غزة إلى بوابة إسقاط نتنياهو وتصفية حماس
محمد حسن المومني
29-07-2025 11:26 PM
فجأة، وفي خضم ركام الحرب الطويلة، يخرج علينا الغرب بمبادرة تبدو ظاهريا وكأنها اعتراف متأخر بـ"حق الفلسطينيين في دولة"، عبر إعلان فرنسي بريطاني مرتقب في سبتمبر حول الاعتراف بدولة فلسطين. المفارقة أن غزة، التي ظلت حتى وقت قريب تُختزل في الخطاب الدولي كملف إنساني بائس، أصبحت بين ليلة وضحاها قضية حقوق سياسية وتقرير مصير. فهل تغير العالم؟ أم أن ما يجري ليس إلا استثمارا في فشل إسرائيل وعجزها عن فرض منطق الحسم العسكري الكلي؟.
التحول الظاهري في الخطاب لا يُفسر برغبة أوروبية في إحقاق العدالة للفلسطينيين، بل بمحاولة احتواء الفشل الإسرائيلي المتدحرج في غزة، واحتواء الطموحات غير المنضبطة لحركة حماس التي تحاول تثبيت نفسها كفاعل سياسي في اليوم التالي للحرب، دون أن تُظهر أي اكتراث حقيقي بالكارثة الإنسانية التي يعيشها أهل القطاع. الغرب، وهو يراقب هذا المشهد، لا يفكر بالمقاومة ولا بمظالم الفلسطينيين بقدر ما يفكر بكيفية إدارة المخاطر: كيف يتم الحفاظ على إسرائيل داخليا؟ وكيف تعاد صياغة خريطة اللاعبين في الإقليم بطريقة تُنهي منطق السلاح غير المنضبط، سواء كان بيد حماس أو بيد سموتريتش وبن غفير؟
التحليل المعلب، سيقدم هذا التحول كمكسب من مكاسب السابع من أكتوبر، في محاولة لربط مجازر الحرب الدامية بإنجاز سياسي. سُيقال لنا إن العالم بدأ يفهم منطق المقاومة، وإن دماء المدنيين لم تذهب سدى، وسُيعاد تدوير خطاب الأناشيد والدعاية المغموسة في دماء الأطفال. لكن الواقع يقول شيئا آخر. فإن ما يجري يبدو في جوهره جزءا من تفاهم أمريكي أوروبي عميق هدفه ليس إنصاف الفلسطينيين، بل إعادة صياغة المشهد داخل إسرائيل نفسها، بدءا من إسقاط اليمين المتطرف الذي بات عبئا حتى على حلفائه.
نتنياهو، الذي تعلم من تجربته أن التصعيد هو بوابة البقاء، لن يقف مكتوف الايدي إزاء نوايا تعترف بفلسطين وتقصيه من المشهد. الأرجح أنه سيحاول افتعال تصعيد جديد، أو عرقلة إدخال المساعدات، أو حتى تفجير الوضع في جبهة أخرى، فقط ليمنع لحظة التحول الدولي من الاكتمال. هو يدرك أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية في ظل ولايته سيكون بمثابة شهادة وفاة سياسية له، وأن الهدنة تعني بداية النهاية لحكومته. ومع ذلك، الوقت يداهمه، والتحالفات الدولية تتشكل دون إذنه، والقرار يبدو أكبر منه بكثير.
هناك في الأفق ما هو أخطر من مجرد إعلان. هناك مشروع تصفية مزدوج، يستهدف في الوقت ذاته اليمين الإسرائيلي وحركة حماس وكل امتدادات الراديكالية في الشرق الأوسط. تسوية كبرى تطبخ على نار هادئة، لا مكان فيها لأمراء الحرب ولا لتجار الدين. العالم بدأ يدرك أن استمرار منطق الفوضى والسلاح في المنطقة يعني المزيد من الانفجارات، والمزيد من الأثمان، لذلك تتجه البوصلة نحو إغلاق ملفات الصراع المفتوحة بطريقة تضمن السيطرة، لا العدالة.
ما يجعل المشهد أكثر مأساوية، أن هناك من لا يزال يخرج علينا بمزامير التطبيل لحماس، محاولا اقناع الشارع العربي الذي سُحق فقيره تحت شعار التحرير أن السابع من اكتوبر لحظة مجيدة في تاريخ الأمة. ينسى هؤلاء ان تلك اللحظة لم تجلب سوى الحصار والمجازر والتصحر السياسي، وان المقاومة لا تعني اقامة امارة على الجثث، بل انتزاع حق حقيقي في الحياة والحرية والسيادة. وإن كان لا بد من لحظة مفصلية، فهي تلك التي تنهي منطق المتاجرة، وتُخرج فلسطين من قبضة الانتهازيين، وتعيدها إلى حضن مشروع وطني جامع لا يقايض الدم بالموقع.
كل ما يجري اليوم، من بيانات وتفاهمات، هو في جوهره محاولة لتفكيك العقدة الفلسطينية، لكن ليس لصالح الفلسطينيين دائما، بل لصالح من يملك القدرة على فرض رؤيته. وفي هذا، على الفلسطينيين والعرب أن ينتبهوا، فلا شيء يُمنح مجانا، وكل اعتراف له ثمن، ومن لا يملك أوراقه، يُكتب تاريخه على يد خصومه.