نتنياهو وسياسة الهروب إلى الأمام!
أ.د أحمد بطَّاح
12-08-2025 11:58 AM
لقد استغرب كثيرون جنوح نتنياهو الأخير إلى احتلال كامل قطاع غزة بدلاً من محاولة الوصول إلى حل وسط مع المقاومة الفلسطينية، ولكن المدقّق في سياسته منذ بداية الحرب بعد 7 أكتوبر 2023 يلاحظ أنه يحاول الهروب إلى الأمام بدلاً من التركيز على مشكلة قطاع غزة ومن ورائها معضلة القضية الفلسطينية، وقد تجلّى ذلك بوضوح من خلال:
أولاً: نقل ثقل المعركة من قطاع غزة إلى لبنان، فقد بدأ بالرد على "حزب الله" في لبنان، ولكنه ما لبث أن ركز معظم قوة الجيش الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية، الأمر الذي اتضح من خلال ما سُمي "حرب البيجر"، واغتيال معظم القيادات الهامة في حزب الله: العسكرية والسياسية، بما في ذلك أمينه العام الشيخ حسن نصر الله، بل وقصف الضاحية الجنوبية لبيروت (معقل حزب الله) بغير رحمة، وغني عن القول أن نتنياهو نجح في معركته هذه حيث اضطر حزب الله إلى الجلاء إلى شمال الليطاني، وقبول القرار (1701)، وما ترتب على ذلك من انحسار نفوذه السياسي في بيروت، وإلى درجة أنّ "نزع سلاحه" أصبح مطلوباً الآن من قبل السلطات اللبنانية، وبقبول عام من كثيرين من اللبنانيين.
ثانياً: نقل المعركة ثانيةً إلى الجبهة السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا على يد قوى الثورة السورية حيث استغل نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة الأوضاع الهشّة في سوريا، فأعلن تنصله من اتفاقية "فك الاشتباك" المعقودة بين سوريا وإسرائيل في عام 1974، مجيزاً لنفسه احتلال المنطقة المنزوعة السلاح، وأعالي جبل الشيخ، بل والمطالبة بجعل جنوب سوريا (محافظات درعا، والقنيطرة، والسويداء) منزوعة السلاح، معززاً ذلك بشن ضربات جوية مُدمرة على معظم مقدرات الجيش السوري السابق: البرية، والبحرية، والجوية.
ثالثاً: نقل المعركة وللمرة الثالثة بعيداً هذه المرة إلى إيران حيث شنّ سلاح الجو الإسرائيلي هجمات كبيرة على إيران بحجة تشكيلها خطراً نووياً وجودياً على إسرائيل، وقد استطاع جيش نتنياهو خلال هذه الضربات قتل عدد غير قليل من القيادات الإيرانية: العسكرية، والسياسية، والعلماء الذريين، فضلاً عن تدمير المنشآت النووية الرئيسية في إيران مستعيناً في ذلك في المرحلة الأخيرة بالقوة الجوية الأمريكية التي ضربت منشأة " فوردو" النووية. صحيح أنه ليس مؤكداً بعد أهمية الضربة الإسرائيلية للمواقع النووية الإيرانية، وصحيح أيضاً أنّ إسرائيل تلقت في المقابل ضربات صاروخية إيرانية مؤثرة وبخاصة في بعض مواقعها الحساسة، ولكن الحقيقة هي أنّ إسرائيل نجحت ولو جزئياً ومؤقتاً في تحييد الخطر النووي الإيراني، كما سجلت تجرؤاً مهماً في مهاجمة قوة إقليمية كبرى ذات حلفاء (أو أذرع إن شئت) في المنطقة ككل.
رابعاً: نقل المعركة إلى الضفة الغربية المحتلة حيث ركزت إسرائيل على تدمير المخيمات الفلسطينية (جنين، نور شمس....) بكل ما لها من رمزية وقيمة في سجل النضال الفلسطيني، وقد أدى ذلك بالفعل إلى تهجير ما يزيد عن 50,000 فلسطيني من سكان المخيمات، فضلاً عن تدمير بنى تحتية مهمة، واعتقال ما يزيد عن 11,000 فلسطيني في الضفة.
وأخيراً، وبعد أن هرب نتنياهو -ولو بنجاح- إلى الجبهات المتعددة الأخرى (عدا جبهة غزة) التي أشرنا إليها أنفاً فإنه لم يجد لتحقيق أهدافه التي أعلنها منذ بداية الحرب (القضاء على حماس، إطلاق سراح الأسرى "الرهائن" الإسرائيليين، وعدم تشكيل حماس أيّ خطر مستقبلي على إسرائيل) غير احتلال كامل قطاع غزة متجاهلاً أنّ ذلك سوف يكلف إسرائيل كثيراً من الجنود، والمال، والسمعة الدولية (التي تدنت إلى الحضيض)، وآملاً أن يحقق ما أسماه "النصر الكامل" منذ بداية الحرب. إنّ نتنياهو يهرب إلى الأمام بالفعل فهو لا يدرك وبقية اليمين المتطرف الذي يشارك في حكومته أنّ المسألة ليست حماس بل القضية الفلسطينية، وهو لا يدرك وشركاؤه أنّه لن يستطيع تحرير أسراه بالقوة بعد أن حاول ذلك لمدة سنتين وبكل ما أوتي من إمكانيات عسكرية ودعم غير مسبوق من الدول الغربية وبالذات من الولايات المتحدة، وهو لا يدرك بأنه لن يتحاشى الخطر المستقبلي من قطاع غزة ومن الشعب الفلسطيني إلَا بفهم تطلعات الفلسطينيين في التحرر والاستقلال، وبداية ذلك قبول "حل الدولتين" الذي ينص على إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة في الرابع من حزيران لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وبخاصة بعد أن اتحد العالم (ما عدا الولايات المتحدة) على قبول "حل الدولتين"، الأمر الذي تجلى في توالي بعض الدول المهمة (فرنسا، بريطانيا، كندا....) على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وعقد مؤتمر "نيويورك" بشأن الموضوع.
إنّ سياسة نتنياهو في الهروب إلى الأمام لن تفيده على المدى البعيد، وسوف يجد نفسه مضطراً إلى القبول بالحقيقة وهي أنه لا بد من الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني واعتماد الآليات التي حددتها الشرعية الدولية لتنفيذ ذلك.