أيلول الأبيض .. حين انتصر الأردني لهويته
ميس القضاة
02-09-2025 10:00 AM
لا يمكن قراءة تاريخ الأردن الحديث دون التوقف عند أيلول 1970، ذلك الشهر الذي شكّل مفترق طرق حاسمًا بين البقاء والانقسام، بين السيادة والفوضى. فبينما يرى البعض في أيلول بداية خريف رومانسي يحمل نسمات باردة، يستذكر الأردنيون هذا الشهر بوصفه لحظة صون الدولة وحماية هويتهم الوطنية، حين أصبح الدفاع عن الوطن واجبًا مقدسًا لا مساومة فيه.
بعد حرب حزيران 1967، تحوّل الأردن إلى نقطة محورية للصراعات الإقليمية، حيث تحولت بعض الفصائل المسلحة إلى قوة تفرض نفسها داخل حدود الدولة، تاركة الدولة الأردنية أمام اختبار حقيقي لقدرتها على الصمود. تصاعدت التوترات، حتى بلغت ذروتها في أيلول 1970، حين اتخذ الملك الحسين بن طلال رحمه الله، قرار المواجهة قرارًا لم يكن سهلاً، ولكنه كان ضروريًا لحماية مؤسسات الدولة ومنع انزلاق الأردن نحو الفوضى.
كانت المواجهة قاسية، لكنها كشفت عن معدن الأردني الحقيقي: صمود لا يتزعزع وإيمان عميق بأن الهوية الوطنية فوق كل اعتبار. برزت شخصيات وطنية كالراحل وصفي التل والراحل حابس المجالي، الذين جسدا الإرادة الشعبية والشجاعة الفذة، فيما صارت أغانٍ مثل “تخسى يا كوبان منت ولف لي” رمزًا للكبرياء الوطني والإصرار على حماية الوطن.
إن أيلول الأبيض مهم لدى الأردنيين، ففيه أثبتوا لأنفسهم أن لا شرعية على هذه الأرض إلا من أبنائها، ولا مكان للمليشيات أو العصابات المسلحة على هذه الأرض المباركة.
نستذكر ونفتخر بانتصار جيشنا العربي المصطفوي على يد الغدر الإرهابي، وسحق من كانوا يسمون أنفسهم بالفدائيين. ونترحم على أرواح شهدائنا في الجيش العربي ومن المواطنين الذين قضوا نتيجة الإرهاب، ونستحضر بطولات الملك الحسين، وشهيد الوطن وصفي التل، وحابس المجالي، عليهم جميعًا رحمة الله.
أيلول لم يكن مجرد صراع سياسي وعسكري، بل لحظة تشكيل للوعي الوطني. اكتشف الأردنيون في تلك التجربة أن الحفاظ على الدولة مرتبط بالانتماء الصادق لمؤسساتها، وأن الولاء للوطن ليس شعارًا عابرًا، بل ممارسة يومية تتطلب تضحية وشجاعة. هذه الهوية الوطنية تشكّلت في الذاكرة الشعبية، بين البيوت والمدارس والأسواق، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الأردنيين.
لقد رسّخت أحداث أيلول حقيقة أن الأردن ليس مجرد رقعة جغرافية، بل كيان قائم على إرادة صلبة وهوية وطنية متينة. هذه الهوية تولدت من التضحيات، ونمت بالصمود أمام الضغوط والتحديات، وأصبحت الضامن الأكبر لاستمرارية الدولة واستقرارها. واليوم، بعد أكثر من خمسين عامًا، يظل أيلول الأبيض شاهدًا حيًا على أن الأردني حين يواجه الخطر، يضع هويته الوطنية في المقدمة، وأن الوطن يبقى صامدًا بتكاتف أبنائه وإخلاصهم لترابه وولائهم لدولته.