تطورات الاوضاع الميدانية في غزة هذه الايام، تشير الى ان المدينة محاصرة خارجيا ،من جميع الاتجاهات من قِبل قوات الاحتلال ، التي سيصل تعدادها الى ٦٠ الفاً ، ضمن عملية ( عربات جدعون 2 ) اي انها بين كماشة ثلاثية الاضلاع ،وبحر هائج مائج لا يقل خطورة ، عن ( غدر ومكر ) قوات الكيان، التي تقتل وتحرق وتدمر ، بلا رادع من ضمير ، او خشية من قانون.
ابناء غزة محاصرون داخليا ايضا ، بالجوع والعطش والمرض والتلوث والعصابات، مما يعني ان استشهاد اعداد كبيرة منهم هو امر محقق، على مرأى ومسمع العالم ، ان لم يكن على يد اسرائيل ، فسيكون بسبب الجوع والمرض ،، وان طالت اعمار بعضهم الآخر - وبالتالي معاناتهم - شهرا او اثنين ، عاما او عامين - فان شبح الموت بانتظارهم ايضا نظرا لانعدام اسباب الحياة - وكون حكم ( الاعدام ) الاسرائيلي بحقهم قد صدر ، ولم يبقى امامهم الا مواعيد وتوقيتات التنفيذ.
شعب غزة الذي ينزف - منذ عامين - دما والما وحسرة ، ويُقدم الشهيد تلو الشهيد ، ويجود بنفسه دفاعا عن ارضه وعرضه وقضيته ، في ملحمة انسانية بطولية غير مسبوقة ( لا يُلام على اي قرار يتخذه ، فقد كفًى و وفًى) .. والخوف كل الخوف ان تنتقل مأساة غزة في مقبل الشهور ، الى الضفة الغربية ( ولكن باخراج مختلف ) في ضوء الاجراءات والجرائم الاسرائيلة المتسارعة هناك، من القتل والتضييق والاستيطان والحديث عن الضم وفرض السيادة والتهجير ، وانهاء السلطة الوطنية الفلسطينية.
ما يجرى في غزة يذكرنا بمحطات هامة في حياة شعوب وامم ، عاشت لحظات فارقة في تاريخها نتيجة اختلال موازين القوى من حيث ( العدد والعدة ) هذه المواقف والمحطات قاد بعضها الى نصر ، والاخر الى شهادة ، وثالثة الى ( الموت بشرف) لكن النتيجة كانت في كل الاحوال ، ورغم اختلاف المسميات ، واحدة ومبهرة ومُلهمة ودخلت التاريخ، كما في فيتنام ولينينغراد والبوسنه وغيرها من ساحات الصراع بين القوي والضعيف.
من منًا لم يقرأ عن بطولة القائد طارق بن زياد ، عندما احرق سفنه وخاطب جيشه ، بالعبارة المشهورة ( العدو من امامكم والبحر من خلفكم ) وبعدها خاض الجيش معركة ملحمية توجت بنصر مؤزر ، تم خلاله فتح الاندلس ،رغم تفوق العدو في الامكانيات العسكرية ، واصبحت مقولته رمزا للشجاعة والاقدام و ( عدم الاستسلام ).
وفي معركة اليرموك ، عندما حُوصِر جيش المسلمين بقيادة خالد ابن الوليد ( البالغ تعداده ٣٦ الفا ، مقابل من ٢٤٠ الفا من الروم ) انبرى عكرمة بن ابي جهل ، وقال جملته الشهيرة ( من يبايع على الموت )؟ فالتحق به مئات الفدائيين وشكلوا ( كتيبة الموت ) التي قاتلت ببسالة، وكسرت شوكة جيش الروم وفتحت ثغرة في صفوفه ، غيرت مجرى المعركة لصالح جيس خالد، في سابقة لا زالت تدرًس في المعاهد العسكرية لغاية اليوم.
وبعيدا عن البُعد العقائدي والأيدولوجي ، قرأنا عن كفاح مقاتلي ( ساموراي ) في القرن التاسع عشر ، وشاهدنا الفيلم الملحمي الدرامي ( لاست ساموراي Last samurai ) لتوم كروز ، الذي جسًد بطولة هؤلاء المقاتلين ، الذين اختاروا ان يخوضوا معركة غير متكافئة في العدد والسلاح مع الجيش الياباني ، حتى يموتوا بشرف ، في ساحات القتال ، مُقبلين غير مدبرين.
اسرائيل في سلوكياتها اليومية ، وهمجيتها المتأصلة وغطرستها المرضيًة ، تجبر شعب غزة ، المقاتلين والمدنيين ( العُزًل ) ، على المواجهة ، وتدفعهم دفعا الى الموت بشرف ، فهي لم تترك لهم خيارا للحياة، ولا سبيلا للنجاة، وبذلك فان تل ابيب هي الطرف الوحيد الذي يجب ان يتحمل وزر الفعل ورد الفعل ، الذي لا يمكن التنبؤ بتداعياته المستقبلية ، والذي قد نشاهد نتائجه بعد سنوات طويلة في فيلم اسمه ( آخر غزاوي ).
التجارب التاريخية ، والدراسات النفسية والاجتماعية تؤكد ان ( الحصار الشامل، والحرب الهمجية ) لا يؤدي ببساطة إلى الاستسلام، بل يخلق مزيجًا من التصلب النفسي ويعزز الدافع العقائدي ، وهذه العوامل تدفع الناس غالبًا نحو خيار ( الصمود ) أكثر من خيار ( الانهيار )، وبذلك يصبح المزاج العام في ظل الهوية الجماعية والدينية ( كما في حالة غزة ) ميالا نحو القتال حتى النهاية أو العيش بكرامة تحت أي ظرف.
ولذلك فان الحصار ليس مجرد إغلاق للحدود الأربع ، بل إنّه إعادة تشكيل للوعي اليومي على إيقاع الموت المنتظر في كل لحظة، فعندما يصبح الحصول على الخبز والماء والدواء مهمة شبه مستحيلة ، تتغيّر ( معادلة الخوف ) لان ما يمكن خسارته يصبح قليلا ، و امكانية الميلُ إلى (المجازفة ) ترتفع ،و فكرة ( التضحية ) تتقدم حينها على الرغبة في ( النجاة).
في ظل الحصار الشامل ، تعيش الاغلبية من الناس وتتكيف ، وتُبقي شعلة ( الفِداء ) متقدة ، كي لا يتحوّل الموت إلى ( حدثٍ بلا هدف ) لذلك، فإن فك الحصار المفروض على القطاع ، لا يخفّف الألم عن اهالي غزة فقط ، بل ويقلّل من احتمالات اندفاعهم إلى خيارات ( حتى النهاية ) لان المعادلة بغير ذلك ، تصبح ليست بين حياةٍ وموت، بل بين موت بكرامة وموت بلا ثمن .
لقد اثبتت دروس الصراعات انه كلما زاد الخناق، زاد العناد ،، والإرادة البشرية حين تُسلب منها أسباب الحياة، قد تسمو فوق الخوف ، لتصنع مجدًا أو تصنع مأساة ،، لكنها نادرًا ما تستسلم.
theeb100@yahoo.com