لم يعد التصريح الصادر عن مسؤول، سابقاً كان أو حاليّاً، مجرد كلام عابر في فضاء الإعلام، بل صار امتحاناً علنياً أمام محكمة شعبية مفتوحة على وسائل التواصل الاجتماعي ، فما إن يتحدث أحدهم حتى تنهال عليه مئات التعليقات الغاضبة التي تكاد تخلو من كلمة تأييد أو تعاطف ، وهذه ليست مجرد موجة عاطفية عابرة، بل هي شهادة شعبية تكشف حجم الهوة بين الشارع وبين من تعاقبوا على مواقع القرار في مراحل مصيرية من حياة الأردنيين.
السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا يُقابل التصريح غالباً بالرفض والسخط، حتى لو لم يكن سيئاً في مضمونه؟ الجواب لا يكمن في العبارة ذاتها، بل في ذاكرة الناس المثقلة. فالمواطن الأردني لا يسمع كلام المسؤول بصفته رأياً شخصياً، بل يقرأه كتذكير بتجارب سابقة، وبقرارات أثقلت كاهله وأدخلته في أزمات معيشية واقتصادية لم يتعافَ منها بعد ، وندوب معيشية مستعصية العلاج بالتسكين والتسويف، ومن هنا يصبح التصريح محاكمة أخلاقية وسياسية لإرثٍ لم يُمحَ من الذاكرة.
تتضاعف الأزمة حين يبدأ بعض المسؤولين، بعد مغادرتهم مواقع السلطة، بالبوح باعترافات وحقائق لم يجاهروا بها وهم في موقع الفعل ، او كانوا هم احد اسبابها ، فالناس لا يرحمون ازدواجية الصمت في لحظة القرار والكلام بعد فوات الأوان ، وهذا التناقض يفرغ أي تصريح متأخر من محتواه، ويحوّله إلى مادة إدانة جديدة.
لكن الغضب الشعبي لا يفسَّر بالذاكرة وحدها ، إنه نتيجة تراكم طويل من الأوضاع الصعبة: غياب الأفق الواضح، وتوالي القرارات الاقتصادية المثقلة بالضرائب والرسوم، وتآكل الطبقة الوسطى التي كانت صمام الأمان، واتساع الفجوة الطبقية بصورة لافتة. يضاف إلى ذلك ضعف العدالة وتكافؤ الفرص، وتناقض الخطاب الرسمي مع واقع حياة الناس، وغياب حلول ناجعة لأزمات مثل البطالة المتفاقمة في وقت يغص فيه سوق العمل بالعمالة الوافدة. كل ذلك شكّل رصيداً من المرارة جعل الشارع متحفزاً لأي تصريح يرى فيه استهتاراً أو استخفافاً بمعاناته.
إن استعادة الثقة بين المسؤول والناس ليست مهمة مستحيلة، لكنها تتطلب مقاربة مختلفة في الخطاب والممارسة. فالناس يريدون اعترافاً صريحاً بالأخطاء قبل البحث عن مبررات، ويحتاجون إلى لغة حلول واقعية بدلاً من خطابات الوعظ والتنظير، والكف عن التحدث عن المستقبل الواعد حتى بات ذلك المستقبل من الماضي التليد ، المواطنين يريدون خطاباً متواضعاً قريباً من همومهم لا متعالياً عليهم ، والأهم أن يشعروا بنتائج ملموسة في حياتهم اليومية، من تخفيف للأعباء الاقتصادية إلى إصلاح فعلي ينعكس في العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وعدالة توزيع الحقوق والخدمات ..
عندها فقط يمكن أن يتحول التصريح من محاكمة علنية قاسية إلى جسر لإعادة بناء الثقة، ويُذكر صاحبه باعتباره صوتاً صادقاً في زمن شحّت فيه المصداقية.