روايتنا الإعلامية بين قوة القضايا وضعف الحكاية
د. فاطمة العقاربة
08-09-2025 01:36 PM
لم تعد السردية الإعلامية ترفا يمكن تجاوزه أو تأجيله بل أصبحت ركنا أساسيا من أركان السيادة الوطنية وفي زمن أصبحت فيه الحكاية أقوى من السلاح يجد الأردن نفسه أمام معضلة واضحة فبينما يملك مواقف سياسية متقدمة وموقعا جيوسياسيا حساسا وتجربة تاريخية فريدة يفشل في رواية ذاته كما يجب ويترك فراغا تستغله الروايات المختلقة والمغرضة
المشكلة ليست في القضايا فالهوية الوطنية والموقف من فلسطين ورفض التهجير والتوطين والوطن البديل ودور الأردن في القدس كلها عناصر صلبة قادرة على تشكيل خطاب مؤثر لكن الأدوات الإعلامية تبدو عاجزة غارقة في الإنشاء ممولة بطرق غير تحررية وموزعة بين الرقمي والمحلي والدولي دون وجود مشروع رسمي قوي التمويل أو بوصلة واضحة لهذا الخطاب
وفي الوقت الذي تتقدم فيه إسرائيل بروايتها على حساب الحقائق أو كما رأينا في الحرب الروسية الأوكرانية حيث تحولت السردية إلى أداة حاسمة في الصراع يتأخر الإعلام الأردني عن استحقاق اللحظة فلا هو قادر على تحويل موقف الدولة السياسي إلى قصة مقنعة ولا هو قادر على حماية الداخل من تسلل الروايات المضادة والمشبوهة
وما يزيد المشهد ارتباكا أن الفضاء الإلكتروني المفتوح جعل المجال متاحا لخطابات الكراهية والتحريض لتغزو المنصات دون رادع تشريعي حاسم فالقوانين الأردنية oscillated بين التجريم والإلغاء مما خلق ثغرات كبيرة سمحت للمحرضين بالإفلات بينما أصبح الشباب الوطني يخشى التعبير خوفا من سوء الفهم أو الملاحقة وهكذا ضُرب التوازن بين حرية التعبير وواجب حماية المجتمع
هذا التناقض المزدوج بين قوة الموقف السياسي وضعف الرواية الإعلامية وبين وجود القوانين وغياب فعاليتها خلق فجوة واسعة خطيرة فمن جهة المواطن الأردني يجد نفسه أمام سيل من الروايات الخارجية المفبركة تقدم بمؤثرات أقوى ومن جهة أخرى يواجه داخليا أصواتا متطرفة تستغل ثغرات القانون لتفتيت النسيج الاجتماعي وفرض روايتها على المجتمع
وحينما يُصبح المشهد محتكرًا من قبل المهرّجين والشواذ عن المسار الوطني فإن أول ضحايا هذا التلوث هو الصوت الوطني الحقيقي ذلك الصوت الذي لا يصرخ ولا يتزلّف ولا ينافق بل يتكلم بعقل وضمير هذا الصوت غالبًا ما يُقصى ويُستبدل بمن هو أكثر صخبًا وأقل صدقًا
وتتنوع أساليب إقصائه بين التهميش الإعلامي حيث يُحرم من المنصات المؤثرة لأنه لا يخضع لأجندة ولا يخدم الإثارة وبين التشويه الممنهج عبر اتهامه بالتحفّظ أو الرجعية أو العدمية وبين التجويع الرمزي حين يُستبعد من المنابر ويُحرم من التقدير ليُترك يصرخ في الفراغ بينما تتصدر الجوائز والصفقات أصوات الضجيج
بل تتجاوز الممارسات ذلك إلى الإغراق في الرداءة عبر إغراق الساحة بخطابات تهريجية ومحتوى سطحي وصراعات مصطنعة تجعل الصوت العاقل يبدو مملًا وغير مفهوم وسط الضجيج وأحيانًا يُحتوى هذا الصوت في أدوار تجميلية داخل منظومات مزيفة أو يُستخدم كغطاء للشرعنة وإن رفض تبدأ بحقه حملات اغتيال رمزي
النتيجة أن الصوت الوطني الصادق يبقى محاصرًا لا لأنه ضعيف بل لأنه يشكل خطرًا على المزيفين لأنه لا يساوم ولا يُشترى ولا يخضع للعرض والطلب وهنا يكمن جوهر الخلل في روايتنا الإعلامية التي تترك الأقوى مضمونًا في الظل وتضع الأضعف مضمونًا في الواجهة مما يفتح الباب لارتباك داخلي واختراق خارجي
إذن الإصلاح لا يكون بزيادة القنوات أو بالمحتوى الرسمي المكرر بل بمشروع وطني متكامل للسردية الإعلامية مشروع يطور خطابا يحكي القصة الأردنية بلغة مقنعة رمزية وعصرية وفي الوقت نفسه يحتاج إلى منظومة قانونية متوازنة تردع خطاب الكراهية دون أن تكبل الفكر الوطني وتمنح الفضاء الحرية مع المسؤولية
نحتاج إلى إعلام يروي الوطن لا يصفه فقط إعلام يربط الداخل بالخارج ويحمي النسيج الاجتماعي من الداخل ويخاطب العالم بقوة الحجة لا بشعارات مكرورة ونحتاج إلى معهد أو مركز وطني للسردية الإعلامية يجمع بين الخبرة والرمزية بين الأصالة والحداثة وبين القانون والإبداع وحتى يتحقق ذلك ستظل الرواية الأردنية مظلومة لا لضعف الحق بل لعجز الرواة
توصيات عملية
1. إنشاء مركز وطني للسردية الإعلامية على غرار تجارب المجلس البريطاني للإعلام الدولي والمعهد الفرنسي للدبلوماسية العامة ليكون مرجعا وطنيا في صياغة الرواية وحمايتها.
2. تبني استراتيجية إعلامية وطنية عشرية على غرار استراتيجية الاتحاد الأوروبي لمكافحة التضليل 2018، تتضمن أهدافا واضحة ومؤشرات قياس للأثر.
3. إصلاح تشريعي متوازن يضمن حرية التعبير ويحمي من خطاب الكراهية، مستندا إلى توصيات اليونسكو حول حرية الإعلام ومكافحة خطاب الكراهية (2021).
4. إطلاق برامج تدريبية للإعلاميين الشباب في مجال السردية الرقمية والتحقق من الأخبار، مستوحاة من مبادرات BBC Media Action وDW Akademie.
5. إنتاج محتوى وطني متعدد اللغات موجه للرأي العام العالمي، يشبه ما قامت به الجزيرة الإنجليزية في تقديم الرواية العربية، لكن بمنظور أردني يعكس ثوابته.
6. تطوير شراكات مع منصات التواصل الكبرى (ميتا، إكس، تيك توك) لتمكين الخطاب الأردني وتقييد الروايات المفبركة.