الاستشراف الاستراتيجي .. أداة البقاء والديمقراطية المستدامة
ميس القضاة
20-09-2025 11:00 AM
في عالم يزداد تعقيدًا واضطرابًا يومًا بعد يوم، لم يعد المستقبل فكرة بعيدة أو سيناريو غامضًا ينتظرنا، بل أصبح حاضرًا يتشكل بسرعة ويفرض تحدياته على الحكومات والمجتمعات. الأزمات المتلاحقة مثل جائحة كورونا، والتغير المناخي، وتسارع الثورة التكنولوجية، والتحولات الجيوسياسية والحروب، أثبتت أن الاعتماد على الأدوات التقليدية في صنع القرار لم يعد كافيًا
ومن هنا يبرز الاستشراف الاستراتيجي كأداة جوهرية للبقاء والاستدامة، فهو يمنح صانعي القرار القدرة على استباق الأحداث والاستعداد لها بدل الاكتفاء بردود الفعل المتأخرة ، فالاستشراف الاستراتيجي لا يعني التنبؤ الحتمي بما سيحدث، بل هو عملية تحليلية ومنهجية تستند إلى قراءة الاتجاهات الكبرى، وبناء سيناريوهات بديلة، واستكشاف الفرص والمخاطر على المدى المتوسط والبعيد. بفضل هذه الرؤية الاستباقية، تتحول الحكومات من كيانات تلهث وراء الأزمات إلى مؤسسات قادرة على التحكم بمساراتها المستقبلية، والتخطيط لسياسات مرنة تستوعب المجهول وتحتوي المفاجآت.
وتكمن قوة الاستشراف في أنه يتجاوز البعد الإداري إلى البعد الديمقراطي، فمستقبل المجتمعات لا يمكن أن يُرسم بمعزل عن مواطنيها، والمشاركة الشعبية في عمليات الاستشراف تمنح السياسات شرعية أكبر، وتعزز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع. عندما يُتاح للمواطنين أن يشاركوا في تصور ملامح الغد، تصبح الديمقراطية أكثر حيوية، والسياسات أكثر التصاقًا باحتياجات الناس وقيمهم. إنها ديمقراطية تذهب إلى ما هو أبعد من صناديق الاقتراع لتصبح مشاركة فاعلة في صناعة المستقبل.
كما أن الاستشراف يشكّل أداة لحماية القيم الإنسانية في مواجهة الطفرة التكنولوجية، فبينما يتسارع انتشار الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية، تحتاج الدول إلى رؤية استشرافية توازن بين الاستفادة من الابتكار وحماية المجتمع من مخاطره، مثل الفجوة الرقمية أو تهديد الخصوصية، هنا يصبح الاستشراف بمثابة البوصلة التي تضمن أن التكنولوجيا تخدم الاستدامة والعدالة، لا أن تقود البشرية إلى مزيد من الاضطرابات.
ولعل من أبرز تجارب الاستشراف في السنوات الأخيرة توجه العديد من الحكومات إلى تأسيس وحدات ومجالس متخصصة، بل إن بعض البرلمانات بدأت بتطبيق أساليب مثل "اختبار الضغوط المستقبلية" على التشريعات قبل إقرارها، للتأكد من قدرتها على الصمود أمام تحديات قادمة. هذه الممارسات تمثل تحوّلًا مهمًا من التفكير قصير المدى إلى حُكم قائم على الرؤية بعيدة المدى.
في المحصلة، يمكن القول إن الاستشراف الاستراتيجي لم يعد خيارًا ثانويًا أو نشاطًا نخبويًا، بل هو شرط أساسي لبقاء الدول واستدامة المجتمعات. فمن دون استشراف، تظل الحكومات أسيرة ردود الفعل، ومعه تتحول إلى فاعل رئيسي قادر على توجيه مسارات المستقبل. إن بناء الغد ليس مهمة فرد أو مؤسسة، بل مسؤولية جماعية تحتاج إلى رؤية استشرافية تدمج بين العلم والسياسة، وبين التخطيط والمشاركة المجتمعية، فالمستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع، والاستشراف هو أداته الأبرز لصناعته.