في قاعة الأمم المتحدة وخلال المؤتمر الدولي حول التسوية السلمية وتنفيذ حل الدولتـين في نيويـورك، برز خطاب جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه، كخطابٍ متقن الصياغة، إذ وظّف جلالته اللغة كأداة ضغط دبلوماسي وبلاغي، حيث جاء الخطاب في الذكرى الثمانين لتأسيس لتأسيس الأمم المتحدة، وفي ظل معاناة غزة بعد عامين من الحرب، فكانت كلماته مدروسة لتقود النقاش من العاطفة إلى المساءلة العملية.
حين تحدث جلالته عن أن العالم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن نواصل السير على درب الحرب والصراع المدمّر أو أن نسلك طريق السلام على أساس حل الدولتين، كان يحوّل الخطاب من مستوى النصيحة إلى مستوى القرار المصيري، واضعاً قادة العالم أمام معادلة لا يمكن الهروب منها.
وعندما وصف المستوى المروع من سفك الدماء والدمار في غزة بأنه انتهاك صارخ للقوانين الدولية وقيم إنسانيتنا المشتركة، ربط المعاناة بلغة قانونية وأخلاقية لخلق قاعدة للمحاسبة، محرماً الصمت وجاعلاً الفعل واجباً سياسياً. ثم أضاف أن العالم يخطو اليوم خطوة مهمة على طريق تحقيق السلام العادل والدائم، فمزج التحذير بإمكانية الحل، لتصبح الدعوة أكثر قوة لأنها مرتبطة بفرصة واقعية وليست مجرد تهييب.
في توزيع الرسائل، أظهر الملك براعة لافتة؛ فقد دعا المجتمع الدولي إلى أن الوقت حان لتحمل المسؤولية التاريخية، ووجّه إلى إسرائيل إنذاراً واضحاً بأن خيارها محصور بين الاندماج الإقليمي أو العزلة الدولية، فيما طمأن الفلسطينيين بأن الشرعية الدولية في صفهم. هذه الرسائل الموجّهة بعناية تكشف عن حنكة دبلوماسية تعرف متى ترفع الصوت، ومتى تُطمئن، ومتى تضع الخطوط الحمراء بوضوح.
إن بلاغة جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه لم تكن زخرفة لغوية، بل أداة استراتيجية لنقل العالم من دائرة التمنيات إلى دائرة الالتزام، وهو ما يجعل خطابه نموذجاً يُدرّس في كيفية تحويل المنبر الأممي من ساحة خطابية إلى منصة لتحديد المسارات السياسية.
وفي النهاية، لم يكن خطاب جلالة الملك مجرد مداخلة في جلسة دولية، بل خارطة طريق متكاملة، واقعية في تشخيصها، جريئة في رسائلها، وطموحة في أهدافها. ومن خلال حنكته في صياغة الكلمة، جعل جلالته من الذكرى الثمانين للأمم المتحدة لحظة يستعيد فيها العالم جوهر القضية الفلسطينية باعتبارها اختباراً للقيم الإنسانية ذاتها.