فلسطين ومعيار العدالة الكونية
ميس القضاة
24-09-2025 01:55 PM
* قراءة معمّقة في خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله ورعاه
حين يقف جلالة الملك عبد الله الثاني في الجلسة الافتتاحية لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين، فإنه لا يتحدث بلسان الأردن وحده، ولا بصفته زعيمًا إقليميًا يبحث عن دور في خريطة السياسة العالمية، بل بصفته حاملًا لصوت عربي–إسلامي، وضميرًا إنسانيًا يعيد التذكير بما يحاول العالم أن ينساه: أن فلسطين هي الجرح المفتوح الذي يختبر صدقية العدالة الدولية منذ أكثر من سبعة عقود.
عمق الخطاب تجلّى في ثلاثة مستويات متداخلة، المستوى الأول سياسي–قانوني، حيث وضع الملك المجتمع الدولي أمام تناقضاته، مبينًا أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ينسف أسس القانون الدولي ويكشف عجز النظام العالمي عن تطبيق مبادئه. هنا يصبح الدفاع عن فلسطين ليس موقفًا عاطفيًا أو قوميًّا، بل اختبارًا لمشروعية النظام الدولي ذاته.
أما المستوى الثاني فهو إنساني–وجودي، إذ قدّم معاناة الفلسطينيين بوصفها دورة متكررة من القصف والتهجير وسلب الكرامة. هذه الصورة لم تُطرح كخبر في نشرة أو كإحصائية جامدة، بل كحقيقة متكررة تحاصر الوعي العالمي وتمنعه من الادعاء بأنه "لم ير" أو "لم يسمع". أراد الملك بهذا التكرار أن يكسر الاعتياد الدولي على المأساة، وأن يضعها في صدارة الضمير الإنساني.
أما المستوى الثالث فهو فلسفي–أخلاقي. فالملك لم يخف إدراكه لحدود اللغة أمام حجم المأساة، لكنه رفض أن يكون الصمت بديلًا. وهنا يظهر جوهر الخطاب: فالكلمة، رغم قصورها، تظل واجبًا أخلاقيًا؛ لأنها ترفض التواطؤ وتعيد الإنسانية إلى مسرح السياسة الدولية. إن جرأة الملك على القول حيث يصمت الآخرون هي ما يحوّل الموقف السياسي إلى فعل أخلاقي متكامل.
بهذا العمق، لا يمكن النظر إلى خطاب الملك باعتباره دفاعًا عن فلسطين فحسب، بل هو دفاع عن فكرة العدالة نفسها. فإذا استمر الاحتلال دون حل، فما الذي يتبقى من الشرعية الدولية؟ وإذا ظل الفلسطيني هو الاستثناء الأبدي، فما الذي يتبقى من مصداقية حقوق الإنسان؟
الأردن، من خلال هذا الخطاب، لم يكن مجرد ناقل لمعاناة شعب شقيق، بل كان يعيد صياغة معادلة القيم في النظام الدولي. خطاب الملك عبدالله الثاني هو تذكير بأن السلام لن يتحقق بالمسكنات ولا بالصفقات العابرة، بل بتحقيق العدالة التي هي حق طبيعي للشعوب وشرط لازم لاستقرار العالم.
وهكذا، يصبح صوت جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه ليس فقط صدى لقضية عادلة، بل حارسًا لمفهوم العدالة الكونية ذاته، وجرس إنذار يذكّر العالم بأن إنسانيته على المحك، وأن فقدان البوصلة الأخلاقية أخطر على المستقبل من أي صراع سياسي.