facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




المطلوب إنهاء المقاومة .. أم إنهاء فلسطين نفسها؟


د. سعيد المومني
30-09-2025 11:56 AM

عندما رُحلت منظمة التحرير من بيروت عام 1982 نحو تونس والجزائر وبعض العواصم، بدا أن مشروع "المقاومة المسلحة" قد انتهى، ليبدأ مسار مدريد ثم أوسلو. ياسر عرفات، بخطابه الشهير في الأمم المتحدة، حمل غصن الزيتون والبندقية، لكن الغصن لم يُسقط بل أُسقطت البندقية تدريجياً. أما التصفيات التي طالت قيادات الصف الأول المؤمنين بخيار السلاح (أبو جهاد، أبو إياد، كمال عدوان وسعد صايل وغيرهم) فكانت رسالة واضحة: الطريق الوحيد المسموح به هو التفاوض.

لكن ماذا كانت النتيجة؟ سلطة هشة في رام الله، انقسامات داخلية، وواقع احتلال أعمق. الشعب الفلسطيني لم يعد يرى الشرعية في منظمة التحرير التي ذهبت إلى مدريد وأوسلو، بل وجدها في حماس والمقاومة التي ظهرت كبديل شرعي وشعبي لملء الفراغ الذي خلّفته فتح. الشرعية السياسية عند الفلسطينيين لم تُمنح يوماً لمؤتمر أو وثيقة، بل لفعل المقاومة على الأرض. عندما انخرطت فتح وألقت البندقية ودخلت في مسار التفاوض، تراجعت شعبيتها، بينما صعدت حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى.

تجارب مدريد وأوسلو تثبت أن “السلام” لم يوفر الأمن أو الحرية أو حق العودة، وأن أي مسار سياسي منفصل عن الأرض يظل هشاً وغير معترف به شعبياً. اليوم، نفس المنطق يعيد نفسه: الحديث عن "إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية" مجرد إعادة تدوير لما عجز عن تحقيقه ثلاثون عاماً من أوسلو. مشروع الإصلاح الإداري أصبح طريقة لتجميل واقع الاحتلال، وخلق تسوية شكلية لا تعكس أي تغيير في السيادة أو الحقوق.

خطة ترامب - نتنياهو في غزة تأتي لتكرار هذا السيناريو: إخراج حماس أو تفكيكها، تصفية قياداتها، أو فرض وجوه "معتدلة" تقبل بالإدارة الدولية والتسوية. وفي الوقت ذاته، هذه المبادرة لم تذكر دولة فلسطينية، ولم تتطرق إلى وقف الاستيطان، ولا حماية أراضي الضفة من الضم، ولم تحسم أمر القدس، بل جاءت في ظل تصريحات متباهية بقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

أيضاً سقطة رمزية وأخلاقية تتجلى في تكليف مجرم الحرب "توني بلير"، الذي حمل تاريخ سياسي مثقلاً بالمجازر والحروب، بإدارة "السلام في غزة". هذا الاختيار يوضح كيف يمكن أن تُدار الملفات الفلسطينية عبر واجهات دولية، بينما تبقى الحقوق الجوهرية مهملة. هذه الخطة ليست انفصالاً مفاجئاً عن الماضي، بل امتداد منطقي لصفقة القرن أو لنقل؛ الجزء الثاني منها، وهي تهدف إلى إنهاء المشروع الوطني الفلسطيني بالوسائل الاستعمارية - الإصلاحية، من خلال إعادة البناء والإعمار، وتحويل المطالب الوطنية إلى إدارة شكلية تحت شعار "السلام" و"إصلاح السلطة"، دون أي التزام بالثوابت الفلسطينية أو الحقوق الجوهرية للأرض والشعب.

هنا يمكن قراءة الخطة أيضاً كاختبار دقيق للسرد الدولي حول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بل كقرار ضمني بإنهاء نموذج المقاومة المسلحة في المنطقة. الموقف الفلسطيني، وخصوصاً موقف حماس، لا يُقاس اليوم بتأثيره الميداني فحسب، بل بمدى ما سيُترجَم إعلامياً في الغرب. فإذا قبلت حماس بالخطة، ستُتهم بأنها رضخت بعد كل هذا الدمار، وسيُطرح السؤال: لماذا لم تُجنّبوا شعبكم هذه الكارثة منذ البداية؟ وإذا رفضت، فسوف يُسوَّق الرفض باعتباره دليلاً على أن الفلسطينيين وحدهم يرفضون السلام ويصرّون على تدمير شعبهم. في كلتا الحالتين، تُرسم صورة الفلسطيني باعتباره المسؤول عن الدمار، بينما يُمحى الجرم الأصلي الذي بدأ كل شيء: الاحتلال والتهجير والاستيطان. وبذلك، تتجاوز الخطة كونها مشروعاً سياسياً إلى ما هو أبعد: إجماع دولي وإقليمي على إنهاء المقاومة كخيار، وتجريد الفلسطيني من شرعيته التاريخية، ونقله من موقع الضحية إلى موقع الجاني في الوعي العالمي.

التاريخ يعلم أن التفكيك لا يعني الإلغاء. عندما أُجبرت قيادة منظمة التحرير على مغادرة بيروت فقد حدّ من قدرتها العملياتية، لكنه لم يُنهِ المشروع؛ بل مهد لظهور حماس كبديل شرعي وشعبي للمقاومة المسلحة. وبالمثل، أي محاولة لتفكيك حماس اليوم قد تمهد لولادة جيل ثالث من المقاومة خلال عقد أو عقدين، أكثر تشدداً أو لامركزية، وأكثر قدرة على استثمار التحالفات الإقليمية المتاحة. كل محاولة لإفراغ الأرض سياسياً تعيد تشكيل القادة والأفكار، وتولد حركة مقاومة جديدة إذا ظلت خطوط الدعم الشعبية أو الإقليمية قائمة، مؤكدة أن الشرعية الفلسطينية تبقى دوماً للمقاومة، لا للسياسات الشكلية أو التسويات المؤقتة.

اليوم، كما حدث عام 1982 في بيروت، يظهر التسلسل نفسه: إجماع عربي على إنهاء التواجد الفلسطيني في بيروت، رغم أنهم كانوا داعمين للفلسطينيين أثناء الحرب الأهلية في لبنان. واليوم، يبدو أن هناك توجهاً عربياً مشابهاً تجاه غزة، باعتبار أن استمرار المشروع الفلسطيني المسلح يسبب الخراب للمنطقة، وهو ما يسهّل تطبيق أي خطة تفكيك محتملة. محاولة تفكيك المقاومة وتهيئة الساحة لقيادات أكثر قبولًا للتسوية، لكن التاريخ الفلسطيني يوضح أن المقاومة بأشكالها المتعددة ما زالت الشرعية الوحيدة في وعي الشعب الفلسطيني والعربي، وهي التي تحافظ على القضية حيّة، وتعيد تشكيل نفسها في كل مرة يحاول الاحتلال أو القوى الإقليمية إضعافها.

في مواجهة "مشروع الاستستلام" لا يذكر دولة فلسطينية، ولا تتعرض لوقف الاستيطان أو حماية أراضي الضفة، وتتجاهل القدس، وتقدم "إصلاح السلطة" كحل لإعادة إنتاج الشرعية الشكلية، يطرح السؤال الحاسم: هل سنسمح بإعادة إنتاج مشروع القهر باسم “الإصلاح” و "السلام الإداري”، أم سنستخلص من التاريخ دروسه؟

المشهد بين بيروت 1982 وغزة 2025 يكاد يكون صورة طبق الأصل، مع اختلاف اللاعبين والزمن. هل ستُعاد تجربة تصفية القيادة العسكرية المؤمنة بالمقاومة، لتحل محلها قيادة تؤمن بالتفاوض؟ وهل نكون على أعتاب ولادة جيل ثالث من المقاومة؟

الجواب الأكثر واقعية: التاريخ الفلسطيني لا يُغلق بالتهجير ولا بالاغتيال ولا بنزع السلاح. كل محاولة لتفكيك المقاومة غالباً ما تلد تحولًا أو ولادة جديدة، لأن المقاومة بأشكالها المتعددة تبقى الشرعية الوحيدة التي يعترف بها الفلسطينيون، وهي وحدها التي تحافظ على القضية حيّة في الوعي الشعبي والعالمي، مؤكدة أن أي مسار شكلي أو تسوية شكلية لا يمكن أن تحل محل إرادة الشعب الفلسطيني وصموده.

قد يبدو المشهد الراهن وكأنه إغلاق لصفحة كاملة من تاريخ المقاومة، كما أُغلق فصل فتح الكفاح المسلح من قبل. وربما يُقرأ اليوم كأنّه نهاية حماس أو نهاية مشروع نضالي حمل رايته لسنوات. لكن التجربة الفلسطينية تقول إن النهاية كثيراً ما تكون بداية، وأن كل محاولة لإلغاء المقاومة لا تفضي إلى دفنها بل إلى ولادة شكل جديد منها جيل ثالث أو رابع، قد لا نعرف ملامحه الآن، لكنه سيتشكل بحتمية الوعي الشعبي والظلم المستمر. هكذا تبقى فلسطين عصيّة على الإغلاق، ويظل سؤال المقاومة مفتوحاً مهما حاولت القوى الدولية أو الإقليمية كتابة خاتمته بالنيابة عن شعبها.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :